الفخ القانوني.. كيف يحوّل النظام السوري العفو إلى مصيدة؟

2024.09.26 | 06:31 دمشق

آخر تحديث: 26.09.2024 | 06:31 دمشق

61555555
+A
حجم الخط
-A

يوم الأحد 22 أيلول/سبتمبر 2024، أصدر رئيس النظام السوري بشار الأسد، كالعادة في كل عام، "مرسوم عفو" رئاسي جديد يكاد يكون بلا جديد، إذ تضمن هذا "المرسوم"، "عفواً عاماً" عن جرائم المخالفات عموماً، وجرائم الجنح -مع كثير من الاستثناءات المطاطية- وعن جرائم الفرار، المرتكبة قبل تاريخ 22-9-2024.

وقبل أن نتحدث عن مضمون العفو الذي أصدره بشار الأسد، نشير إلى أن العديد من النظم القانونية حول العالم تستخدم قوانين العفو كأداة قانونية للعفو كلياً أو جزئياً عن عقوبات محكوم بها على أفراد معينين.

وتحقق الدول من خلال قوانين العفو مجموعة أهداف؛ منها الإعلان عن التزام الدولة بمبادئ الإنسانية والرحمة من خلال تخفيف الأعباء القانونية عن الأفراد الذين يعتبرون مستحقين للرحمة، سواء كان ذلك بسبب ظروفهم الشخصية أو الاجتماعية أو بناءً على تقدير السلطات القانونية. ومنها تحقيق التهدئة الاجتماعية، إذ يمكن أن يسهم العفو في تقوية الوحدة الوطنية والمصالحة بين الأفراد والمجتمع بشكل عام وتعزيز السلم الاجتماعي والتعايش السلمي من خلال تخفيف العقوبات على أفراد معينين. ويهدف العفو في بعض الحالات إلى عكس السياسة الجنائية للدولة، فمن خلاله يمكن توجيه رسالة قوية بشأن القيم والمبادئ التي تدعو إلى تقديم العدالة والرحمة. وفي نفس الوقت، يعتبر استخدام العفو جزءًا من استراتيجيات الدولة في معالجة الجرائم وتحقيق الأهداف الاجتماعية والسياسية. كما يلعب العفو أحيانًا دورًا في تحسين النظام القانوني بشكل عام، من خلال إصلاح أو تعديل القوانين التي تفرض عقوبات صارمة في بعض الحالات، مما يساعد في تحقيق التوازن بين العدالة والمرونة.

ولكن هذه الأهداف لا تتوافق بالضرورة مع الأهداف التي ترمي إليها النظم القانونية في الدول ذات الحكم الشمولي والاستبدادي، فإن للعفو في تلك الدول شأناً آخر تماماً.

لكي يستفيد هؤلاء من العفو، عليهم أن "يسلموا أنفسهم"! وطريق التسليم واحد؛ أجهزة الأمن العسكري أو الجوي وأمثالها.

بالعودة إلى عفو بشار الأسد، يبدو أن المرسوم قد تم حصره بالمخالفات وبجنح أقلّ من الجنح التي شملتها المراسيم السابقة، ولم يشمل الجنايات بأي شكل.

كان تركيزه الأول منصباً على جريمة الفرار بنوعيه الداخلي والخارجي المنصوص عليها في قانون العقوبات العسكري، إذ جاء في المادة 2 من "مرسوم العفو" أن العفو يكون:

أ- عن كامل العقوبة في الجرائم التالية المنصوص عليها في قانون العقوبات العسكرية الصادر بالمرسوم التشريعي رقم (61) لعام 1950 وتعديلاته:

  1. جريمة الفرار الداخلي المنصوص عليها في المادة 100.
  2. جريمة الفرار الخارجي المنصوص عليها في المادة 101.

ب- لا تشمل أحكام الفقرة (أ) من هذه المادة المتوارين عن الأنظار والفارين من وجه العدالة إلا إذا سلموا أنفسهم خلال ثلاثة أشهر بالنسبة للفرار الداخلي وأربعة أشهر بالنسبة للفرار الخارجي.

وعليه، فإن "المرسوم" يقضي بعفو عام عن كامل العقوبة لمرتكبي جرائم الفرار الداخلي والخارجي المنصوص عليها في قانون العقوبات العسكرية، من دون أن تشمل أحكام هذا المرسوم المتوارين عن الأنظار والفارين من وجه العدالة إلاّ إذا سلموا أنفسهم خلال ثلاثة أشهرٍ فيما يخص الفرار الداخلي، وأربعة أشهر للفرار الخارجي.

وبطبيعة الحال، فإن المقصود بـ "الفارّين" هم العسكريون المنشقون غالباً، ومعظم هؤلاء من المتوارين عن الأنظار، ممن انتقلوا إلى المناطق المحررة من سيطرة النظام، أو ممن غادروا البلاد، باستثناء من تمكن النظام من القبض عليهم قبل مغادرتهم مناطق سيطرته. ولكي يستفيد هؤلاء من العفو، عليهم أن "يسلموا أنفسهم"! وطريق التسليم واحد؛ أجهزة الأمن العسكري أو الجوي وأمثالها، هذه الأجهزة التي ستحقق مع هذا الفار وتنظر فيما ارتكبه من أفعال أو اتهامات تنسبها إليه، وتقرر بعدها ما إذا كان مرسوم العفو يشمله أو لا يشمله، وما إذا كان يتوجب إطلاق سراحه أو اتخاذ "الإجراءات المناسبة" بحقه.. ويا لهول تلك الإجراءات.

الأمر المؤكد أنه لا علاقة لمراسيم عفو نظام الأسد بأي من الأهداف التي أوردناها في المقدمة، وأن هذه الصكوك في حقيقتها "فخّ" للمطلوبين على قوائم اعتقالات هذا النظام.

وأخذاً بالاعتبار أن معتقلات وأماكن توقيف الأجهزة الأمنية لا تخضع لأي رقابة قضائية، على فرض أن القضاء السوري أصلاً يملك أمر نفسه، إذ جرت التعاملات -خلافاً لمقتضيات القانون- على أن ينظر القضاء حصراً في شمول العفو للمحكومين والموقوفين على ذمة القضايا التي ينظر بها، من دون تجاوز ذلك إلى قضايا الموقوفين الذين لم تجر إحالتهم إلى القضاء. وبالتالي، فإنه لن يكون ممكناً لذوي الفار الذي سلّم نفسه أن يلجؤوا للقضاء للنظر في شموله بالعفو.

وحيث إن مراكز تحقيق الأجهزة الأمنية كانت، ولا تزال، وستبقى ما بقي هذا النظام، مراكز للافتراء واختلاق الجرائم الجنائية الوصف ونسبتها للموقوفين على خلفيات سياسية، وذلك لأسباب عرقية وطائفية خاصة بمنسوبي هذه الأجهزة والقائمين عليها، لذلك سيبقى الفار الذي يسلّم نفسه رهن الاعتقال في أقبية هذه الأجهزة، بانتظار إحالته إلى المحاكم الاستثنائية في حال نجاته من مرحلة التعذيب المفضي إلى الموت خلال الاستجوابات، أو يكون مصيره الاختفاء قسراً، لحين الموت.

الأمر المؤكد أنه لا علاقة لمراسيم عفو نظام الأسد بأي من الأهداف التي أوردناها في المقدمة، وأن هذه الصكوك في حقيقتها "فخّ" للمطلوبين على قوائم اعتقالات هذا النظام.