كانت بيوت العزاء في سوريا تفتح أبوابها للمعزِّين لمدة ثلاثة أيام كاملة، بعد أن يشيع خبر الوفاة عبر مئذنة الحي، يقف الأقرباء والأصدقاء والأحباب إلى جانب ذوي الميت تعبيراً عن مشاطرتهم لهم الحزن وألم الفقد، صوت القرآن المنبعث من مكبرات الصوت يضفي حالةً من الخشوع على المكان، ويعطي هيبة مضاعفة للموت. كلُّ هذا كان قبل أن يثورَ السوريون على النظام الحاكم المستبد، وتتحوَّل حياتهم إلى عزاء مستمر، لا يحدُّ بأيام.
في الحرب يفقد السوري أعزَّ أحبابه، ويواريه التراب، ثمَّ ينطوي على حزنه، طالباً من الله أن يستجيب لدعوات الداعين، ويكون حزنه (آخر الأحزان)، وقد لا يتحصَّل السوريون الذي يقضون هم وعائلاتهم في وقتٍ واحدٍ، بواحدة من طرق القتل الإرهابية، على يدٍ تحفر لهم التراب، ليُدفنوا تحت ثراه، ولا على ترف من يبكيهم في عزاء.
اليوم تغيَّر مفهوم العزاء، وأصبحت مواقع التواصل الاجتماعي، بالنسبة لوضعنا، نحن السوريين، الذين تفرَّقنا في كلِّ أنحاء العالم، بيتَ العزاء الافتراضي الذي يجمعنا، فعن طريق صفحاته المتنوعة تنتشر الأخبار أسرع من انتشار النار في الهشيم؛ بسبب تجمُّع عدد كبير من المستخدمين، الذين غالباً ما تربطهم في الأصل علاقات القربى أو علاقات الصداقة، حقيقية كانت أم افتراضية.
يُظهر الأصدقاء (على حسب تصنيفهم من قِبَل مواقع التواصل الاجتماعي) من خلال التفاعلات الرمزية الجاهزة (Emoji) الدالة على حالتهم مشاعرَ الحزن والأسى، ويعبِّرون أيضاً بوساطة التعليقات المكتوبة في خانة (Comment) عن مشاعرهم التي تساند ذوي الميت في مصيبته، وتتفاوت هذه التعليقات من حيث إظهار كمية الحزن ما بين التفجُّع الشديد ومجرد المجاملة الإنسانية العابرة، وقد يشارك البعض الآخر منشور العزاء على صفحاتهم الخاصة، تعبيراً عن وحدة الحال التي تجمعهم مع أصحاب العزاء.
ويقتصر الأمر في العموم على تبادل عبارات المواساة بين صاحب العزاء وبين أقاربه ومعارفه، إذا كان الفقيد شخصية عادية، فتنتهي هذه المراسم بعد بضعة أيام، ويبقى ألم الفقد باقي الأثر في قلوب الأحبة. بينما تسهم مواقع التواصل الاجتماعي بالتعريف بالفقيد المرحوم، وذلك في حالة كان الفقيد قامة علمية أو شخصية أدبية أو صاحب مكانة ثقافية أو فنية، حيث يتبرَّع عددٌ من المقربين من دائرة الفقيد الأسرية أو المهنية بعرض حياته الشخصية بتفاصيلها كاملة، والتي قد تشتمل -في بعض الأحيان- على مجموعة من الحكايات والقصص التي جمعتهم معه في مكان وزمان ما، كما يتمُّ نشر ملخصٍ سريعٍ عن أعماله التي قدَّمها طوال حياته، لتذكِّر المتصفِّحين لمواقع التواصل الاجتماعي بالإنجازات التي قدَّمها الفقيد، ولتدفع كثيرا من الكتَّاب والنقَّاد لجعل هذا الحَدَث الجليل مادة لكتاباتهم النقدية التي ستدور حول الإنجازات وصاحبها، وفي ذلك نوع من التكريم والعرفان الذي لا يمكن نكرانه، أو الانتقاص من شأنه، وإن جاء في كثير من الأحيان متأخراً، وبعد فوات الأوان.
قد يكون الاهتمام الذي يناله الفقيد أكبر ممَّا هو متوقَّع، وأكبر ممَّا اشتغل عليه في حياته من مكانة.
ومن ثمَّ تلفُّ زوبعةٌ من النسيان هذا الفقيد، إلَّا إن شاء الله له أن يُذكر في ذكرى رحيله السنوي، أو في مناسبة أخرى تتعلَّق بما كان يشتغل به، ثمَّ ينصبُّ الاهتمام من جديد على فقيد آخر تتصدَّر نعوته مواقع التواصل الاجتماعي، وهلمَّ جرَّا..
ويحظى بعض الفقيدين بموجة عالية من الاهتمام، وذلك حسب مكانتهم وموقعهم من المجتمع الذي ينتمون إليه، إذ يتَّفق الأصدقاء وغير الأصدقاء على قيمة هذا الفقيد المعنوية، والمساحة الفارغة التي تركها بعد رحيله، فتكون وفاتهم حَدَثاً يجمع السوريين في خيمة عزاء واحدة، وتشتعل مواقع التواصل الاجتماعي بالمنشورات المعبِّرة عن الحزن إثر هذا الفقدان. وقد يكون الاهتمام الذي يناله الفقيد أكبر ممَّا هو متوقَّع، وأكبر ممَّا اشتغل عليه في حياته من مكانة، بل يمكننا أن نقول إنَّ بعض الأشخاص الذين غادروا الحياة تتمُّ أسطرتهم بطريقة ما عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وذلك من خلال المبالغة التي يُحتفى بوساطتها بالفقيد، وإعطائه حجماً أكثر بكثير من حجمه الحقيقي، فترى في هذا الاحتفاء كمية كبيرة من التزلُّف والمداهنة، التي تكمن وراءها مصالح خفية وغير خفية، وعلى الأرجح فإنَّ هذا الاهتمام يتصل بالمكانة التي كان يشغلها الفقيد في حياته، والتي قد تمتد سطوتها إلى ما بعد وفاته.
وغالباً ما تتَّحد التعليقات حول ذكر القصص الطريفة والذكريات الجميلة، إذ قد تساعد هذه الذكريات الجميلة المسترجعة من الذاكرة على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي على تجاوز الأحزان التي قد تلمُّ بأسرة الفقيد، لما فيها من إظهار الجوانب الإيجابية في شخصيته، كما تعمل على تمتين العلاقات الاجتماعية، ويندرج كلُّ ذلك تحت مقولة (اذكروا محاسن موتاكم)، فذكر المحاسن ينبع من الموروث الديني والشعبي الذي تربَّى عليه أبناء الشعب السوري، إذ يكون التستر نوعاً من التغطية الاجتماعية المتَّفق عليها عُرْفاً، أو نوعاً من التحفُّظ خوفاً من التبعات التي يمكن أن تحصل نتيجة نشر ما لم يكن مرغوباً به، فيكتفى بمقولة (له ما له وعليه ما عليه) بكلِّ ما تحمله هذه العبارة من إيحاءات مسكوت عنها. وقد يشارك بعض الأشخاص منشورات تتحدَّث عن قصص مبطَّنة وغير مباشرة حدثت لهم مع الفقيد من دون ذكر اسمه الصريح، مستخدمين المواربة للإشارة إلى سلوك غير جيد أو تصرف مسيء صدر عنه، وتسبَّب بالأذى الشخصي أو العام، تاركين للأصدقاء تخمين اسم الشخص الذي تدور حوله القصة.
ذكر المحاسن ينبع من الموروث الديني والشعبي الذي تربَّى عليه أبناء الشعب السوري، إذ يكون التستر نوعاً من التغطية الاجتماعية المتَّفق عليها عُرْفاً، أو نوعاً من التحفُّظ خوفاً من التبعات التي يمكن أن تحصل نتيجة نشر ما لم يكن مرغوباً به.
ويبقى الحديث المباشر بين مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي عن مساوئ الفقيد من أقسى أشكال النهايات التي يمكن أن ينتهي إليها الناس بعد موتهم، لما تحمله من الخزي والعار الذي لا يمكن أن يمَّحي من الذاكرة بعد أن أصبح موثَّقاً إعلامياً، وغالباً ما يكون هؤلاء هم السبب في جعل أنفسهم هدفاً لألسنة الآخرين، فيأتي الذم للشخص نفسه حيناً، أو لسلوكه وقيمه حيناً آخر، وفي ذلك فائدة مهمة وهي الخشية من انتشار أفكاره الفاسدة بين الناس، وطريقة لردع الآخرين عن السلوك المماثل.
وبالنتيجة نصل إلى أنَّ هناك معايير متَّفق عليها بين الناس أثناء تأدية مراسم العزاء على مواقع التواصل الاجتماعي، تنحو باتجاه عدم المساس بحرمة الميت ما أمكن، وتدعو إلى استخدام هذه المواقع، وفي مناسبة العزاء بالذات، بطريقة إيجابية ولائقة، لتكون هذه المواقع نافذة نستطيع من خلالها إظهار التعاطف لمن نحب، وتقديم الدعم والمساندة لهم، على الرغم من المسافات الشاسعة التي باتت تفصل بيننا حقيقة.