في مخيم "أهل الغاب"، الواقع غرب مدينة حارم، على الحدود السورية التركية، تسلّمَ الحاج محمود سلّته الغذائية، وحين همّ بحملها انفتح أسفل الصندوق الكرتونيّ، فسقطت محتوياته وانثقب كيس العدس، جمع الحاج الأكياس، ثم أخذ يجمعُ بيده العدس المختلط بالتراب مردداً: "مو حرص عالدنيا بس هاد العدس دفعنا قبالو دم يا ابني".
هل في قولِ السوريّ ابن الغاب، لطمٌ وجَلْدٌ للذات؟ أم لعلّ عبارته كانت شديدة التكثيف، بما يتناسبّ مع عمق المأساة؟
في آذار من العام 2020، توقفت المعاركُ في سوريا، ولا تطعنُ بصحة هذا الخبر، اختراقاتٌ كل عدة أشهر على جبهات متباعدة.
في لقاءٍ له مع صحيفة الشرق الأوسط، نُشر في التاسع والعشرين من كانون الثاني ديسمبر لهذا العام 2022، أكّد المبعوث الأممي إلى سوريا، غير بيدرسون، أن الأطراف الأساسية في الأزمة السورية، أبلغوهُ بأنّ: "مرحلة العمليات العسكرية انتهت".
فكرةُ الانتقام هي المسيطرة على الوعي الجمعيّ السوريّ، ولسنا هنا ننزّهُ أو نسفّهُ هذا الوعي، فعذابات السوريين أربكتْ حتى بديهيات التصنيف الأخلاقيّ
انخفض صوت المعركة، فهل علا بعدها صوتُ السياسة؟ ولصالح من؟
إرادتان قادرتان على إنهاء مأساة السوريين، إرادةُ السوريين مجتمعين، وإن بغالبيتهم، وهذا أمرٌ غير واردٍ في المدى المنظور، فالدم البينيّ ما زال حارّاً، وحارّةٌ أيضاً مصالح الكبار.
لذا ففكرةُ الانتقام هي المسيطرة على الوعي الجمعيّ السوريّ، ولسنا هنا ننزّهُ أو نسفّهُ هذا الوعي، فعذابات السوريين أربكتْ حتى بديهيات التصنيف الأخلاقيّ.
في ظلّ هذا الانقسام المجتمعيّ الحاد، لم يبق إلا مَخرجُ الإرادة الدولية، وتحرّياً للموضوعية سنقول الإرادات الدولية التي تتصارعُ مصالحها على الأرض طيلة أحد عشرَ عاماً، لا نُجافي المنطق حين نقول إنّ الصراع السوري- السوري، في أحد أوجهه، ما هو إلا انعكاس لصراع الدول المتدخلة بالشأن السوري.
في السادس عشر من آذار الماضي، نشرت وكالة "نوفوستي" الروسية، حواراً مع مدير الدائرة الأوروبية الرابعة في الخارجية الروسية، يوري بيلبسون، جاء فيه: "أن التعاون بين موسكو وأنقرة، في الجانب السوريّ، مبنيّ بالدرجة الأولى على البراغماتية والنفعية المتبادلة، وإن منصة أستانا لا تزالُ الآلية التفاوضية الأكثر فعالية بخصوص التسوية السورية".
هل فقد السوريون جميعاً القدرة على القراءة أم على الفهم؟ الحقيقة في تصريح بيلبسون فجةٌ وواضحةٌ ولا تحمل إلا وجهاً واحداً، هو يؤكّدُ أنّ منفعة الروس والأتراك في الدرجة الأولى، وطرحُ بيلبسون ليس خرقاً للأعراف السياسية، فكلُّ سلطةٍ تسعى لتحقيق مصلحة شعبها، قبل مصلحة الجميع.
من يتحرّى مصلحة السوريين؟ وكم هي نسبة مساهمتنا في تأخّر الحلّ الوطني، الذي يتصدّر كل مصالحنا؟
الكثير من التصريحات والتسريبات لمسؤولين دوليين، تؤكد كل مرة أنّ انقساماتنا المتجذرة عرقلت الكثير من الخطوات وحرمتنا من فرص قد لا تتكرر، لا أتحدث هنا عن موالاة ومعارضة، بل عن معارضة أصبحت معارضات يتبع معظمها لوصي دولي، وقوى ثورة ليست أفضل حالاً بكثير.
من السهل القولُ إن الآخرين هم سبب انقسامنا، وإنهم عملوا لتعميق هذا الانقسام، وفي هذا القول شيءٌ من الحقّ، وهنا أتساءلُ بالعقل البارد المجرد، كم نحتاجُ كسوريين للوصاية؟
معاركنا كفصائل ثورية فيما بيننا، كانت أشدّ ضراوةً من معاركنا كقوى ثورية في وجه سلطة مستبدة!!
مرت سنتان على انتهاء العمليات العسكرية، ما الذي أنجزناه كسوريين؟ كل الممارسات الإدارية والسياسية التي تسلكها القوى المسيطرة، تنبئُ بأن كلّ قوةٍ فيها، تتجه لإقامة حكم ذاتي، على الجزء الذي سمحتْ لها به الدول المعنية بالشأن السوري، رغم زعم الجميع، حرصهم على وحدة التراب السوري.
ولن يكون سهلاً أبداً وصف حالنا وموقفنا كشعب، نحن في مأزقٍ فكري حتى أمام ذواتنا، فترانا عاجزين عن الوصف والتقييم، متى نلومُ أنفسنا؟ وكم لنا من العذر في سلبيتنا؟
أليس لنا شي من العذر بعد كل الخذلان الذي تعرضنا له؟
على أيّ منطق نستندُ حين ننتظر الحلّ من الخارج، بعد كل هذا التراكم من تجارب الفشل خلال أحد عشر عاماً؟
على موقعها الرسميّ، بتاريخ الثاني من كانون الأول ديسمبر لعام 2021، نشرتْ وزارة الخارجية الأميركية، البيان الصادر عن اجتماع المبعوثين الخاصين لشؤون سوريا، جاء في: "أعربنا عن قلقنا العميق، إزاء استمرار معاناة الشعب السوري، نتيجة تواصل العنف، والواقع الإنساني المزريّ، لأكثر من عشر سنوات، وشددنا على ضرورة تقديم المساعدات الإنسانية المُنقذة للحياة، وضرورة دعم اللاجئين السوريين، والبلدان المضيفة لهم، ورحبنا بالإحاطة التي قدمها المبعوث الأممي بيدرسون، وتعهدنا بمضاعفة دعمنا لجهوده المتواصلة، بهدف إحراز تقدم نحو حل سياسي للأزمة وفق قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة".
حضر هذا الاجتماع المبعوثون الخاصون لشؤون سوريا منتَدبين عن الكيانات والدول التالية:
الأمم المتحدة، الاتحاد الأوروبي، الجامعة العربية، الولايات المتحدة الأميركية، المملكة المتحدة، فرنسا، ألمانيا، النرويج، تركيا، السعودية، قطر، مصر، العراق، الأردن.
هل هناك من أحدٍ غائب لننتظره؟
"تقديم مساعدات إنسانية منقذة للحياة"، أي مساعدات لا تشمل دعم التعليم، فالجهل لا يميت فيزيولوجياً
وما موقفنا كسوريين بشكل عام؟ وكمعارضة وثورة بشكل خاص من البيان؟
ألا ننظرُ إلى ترتيب سلم الأولويات في البيان؟ فمثل هذا البيان الصادر عن اجتماع بهذا المستوى، يكون مدروساً بدقة، وليس من تأخير وتقديم في العبارات يأتي اعتباطاً.
كم خطاً عريضاً تحت بعض العبارات، يجب أن تضع هذه الدول، حتى نفهم اللعبة وننضج؟
"تقديم مساعدات إنسانية منقذة للحياة"، أي مساعدات لا تشمل دعم التعليم، فالجهل لا يميت فيزيولوجياً.
مساعدات لا تشمل عودة المهجرين قسراً لديارهم، فالغربة لا تُميت حتى لو كانت قسراً.
المنقذة للحياة، تشمل بعض الأدوية واللقاحات، بناء حمّامات جماعية في المخيمات، شامبو ضد القمل، وسلّة إغاثية يترأسها "العدس" من حيث القيمة الغذائية، مقابل الدماء.