في سابقة حدثت قبل عدة أعوام رفع مواطن سوري من مدينة حماة دعوى قضائية في المحاكم السويسرية والفرنسية ضد شخص رفعت الأسد (قائد ميليشيا سرايا الدفاع في ثمانينيات القرن الماضي) وشقيق الأسد الأب وعم الأسد الحالي، الدعوى كانت بسبب مسؤولية رفعت والميليشيا التابعة له عن مجازر حماة الشهيرة في تلك الفترة من القرن الماضي، كون صاحب الدعوى أحد الناجين من المجزرة، وكون والده ضحية من الضحايا الذين مورس عليهم أنواع مهولة من العنف والتعذيب علنا، المواطن السوري، الذي نشر شهادته في المحكمة على مواقع التواصل، يعيش في فرنسا، في نفس الدولة التي كانت تستضيف رفعت الأسد، طبعا الدعوى القضائية تلك لم تأت نتيجتها، ذاك أن المحكمة طلبت شهادات أخرى من مواطنين سوريين، لم يأل صاحب القضية جهدا في محاولة إقناع سوريين آخرين متضررين من المجزرة لتقديم شهاداتهم أو تضمينها في الدعوى، وكانت النتيجة أن لا أحد وافق على ذلك، كانت ذريعة معظمهم أنهم خائفون من أن تؤثر خطوة كهذه على ملفات لجوئهم في الاتحاد الأوروبي، الدعوى أغلقت ورفعت الأسد عاش أكثر من خمس سنوات بعدها متنقلا في دول أوروبا حتى حوكم بتهمة التهرب الضريبي بالسجن لسنوات طويلة ومصادرة أملاكه، لكنه استطاع النجاة من الحكم وعاد إلى سوريا عبر المطار، لا عبر طرق التهريب التي اعتادها السوريون بعد 2011، وتناقلت أخبار عودته كل وكالات الأنباء العربية والدولية، من دون أن يعترض طريقه أحد لا السلطات الفرنسية التي حاكمته، ولا الأنتربول الدولي الذي يفترض أن القضية من اختصاصه.
ما حدث لاحقا من تمكنه من مغادرة فرنسا والاتحاد الأوروبي رغم الحكم عليه بالسجن يدل على أن العدالة الأوروبية لن تكون منصفة مع ضحاياه
هل لو تقدم (لوبي) سوري متضامن بدعوى مشتركة ضد رفعت الأسد كان سوف يحاكم لارتكابه جرائم حرب بشكل شخصي، أو لدوره في مجازر لاحقة كمجزرة سجن تدمر وغيرها؟ سيبقى هذا السؤال بلا إجابة حتما، إذ إنه حين تاريخ إقامة الدعوى تلك كان السوريون لم يزالوا تحت تأثير الخوف الذي عاشوا فيه طويلا، الخوف من عدم قبول طلبات لجوئهم كان حقيقيا، ذلك أنهم عاشوا عمرا كاملا وهم يخشون عقاب أي تصرف ضد أي أحد من السلطة الحاكمة فما بالكم بشخصية كرفعت الأسد بما له من تاريخ إجرامي يمكنه من الانتقام من أعدائه في أي وقت، كان من الصعب أن تقنع سورياً يعرف مجازر الثمانينيات وهرب من مجازر ما بعد الثورة أن ينسى خوفه كونه في بلد تملك قوانين تحميه من الانتقام وتقدم له كل وسائل الحماية الجسدية والنفسية؛ كما أن ما حدث لاحقا من تمكنه من مغادرة فرنسا والاتحاد الأوروبي رغم الحكم عليه بالسجن يدل على أن العدالة الأوروبية لن تكون منصفة مع ضحاياه، ذلك أن ما يملكه رفعت الأسد الذي خرج من سوريا بصفقة جعلته ينقل معه ما يقارب نصف ميزانية سوريا وقتئذ، يجعله ضمن شبكة مافياوية رأسمالية دولية سوف تقدم له الحماية ضد القانون، أو على الأقل سوف تضمن له مخرجا آمنا كما حدث عند عودته قبل مدة قصيرة.
لا يملك ضابط المخابرات السابق المنشق أنور رسلان ما يحميه من العقاب، إذ إنه فقد مخالب جبروته ما إن خرج من سوريا منشقا، ولا يملك سلطة رأس المال التي تجعله جزءا من المافيات الدولية لتحميه من أية محاكمة، خصوصا بعد تخليه عن القاعدة الأمنية (النظام السوري وحلفائه) التي كانت تشكل له حماية ما، ولم يثبت (أصدقاء الثورة السورية) أنهم مستعدون لحماية المنشقين عن النظام يوما، لم يثبتوا أنهم أصدقاء أصلا، لذلك لم يخش كثير من السوريين من الإدلاء بشهادات ضده تدينه بما يكفي للحكم عليه بالسجن المؤبد، هل يستحق مثل هذا الحكم؟ بالتأكيد، فالثورة لايمكن أن تجبّ ما قبلها، وهو كان جزءا من منظومة أمنية فاشية لم تتورع عن قتل معارضيها بأي لحظة، كما أنه ظل مدافعا عن النظام الأمني السوري حتى آخر لحظة من دون أن يبرر سبب انشقاقه مادامت المنظومة عادلة كما يراها، وبالتأكيد فإن الحكم عليه ليس متجنيا رغم أنه لم يمارس من التعذيب سوى جزء بسيط مما مورس في معتقلات النظام الأمنية خلال العقد الفائت، لكن من يوافق على تعذيب معتقل سياسي واحد كمن وافق على تعذيب الآلاف، العدد هنا لا معنى له، وبالتأكيد فإن فرحة ضحاياه وعائلاتهم تكفي للثناء على المحاكمة، كل ذلك لا مجال لمناقشته أساسا، لكن دون أن نعتبر ذلك انتصارا عظيما للثورة السورية وللعدالة، ذلك أن محاكمة أنور رسلان من قبل محكمة ألمانية تبدو كما لو أنها غسل ضمير للعدالة الأوروبية والغربية مشابه لاستقبال مئات الآلاف من السوريين اللاجئين، فهذه العدالة لم تقف موقفا واحدا حاسما لمنع النظام السوري من ارتكاب جرائمه، كما أنها لم تتمكن من إيقاف بيع الأسلحة للنظام والميليشيات المنتشرة في سوريا في صفقات التفافية على العقوبات الاقتصادية على النظام، هذه العدالة سمحت لمجرم مثل رفعت الأسد من التنقل بحربة طوال مدة إقامته في أوروبا وسمحت له بالعودة إلى سوريا رغم محاكمته، مثلما سمحت لغيره من مجرمي العالم وناهبي ثروات الشعوب من العيش على أراضيها معززين مكرمين.
أن نهلل لمحاكمة ضابط منشق وبعيد عن سوريا منذ أكثر من ثمانية أعوام بوصفها محاكمة العصر ومفتاح طريق العدالة فهو أمر مبالغ فيه
والحال أننا نتفهم جميعا، كسوريين، ضرورة أن يشعر أي أحد من المنظومة الفاشية الحاكمة بأنه لن ينجوَ بفعلته وسيحاكم ذات يوم، ولكن أن نهلل لمحاكمة ضابط منشق وبعيد عن سوريا منذ أكثر من ثمانية أعوام بوصفها محاكمة العصر ومفتاح طريق العدالة فهو أمر مبالغ فيه برأيي الشخصي، فالعدالة لن تكون حقيقية ومتاحة إلا بزوال النظام بكل ما فيه، وإنجاز دولة ديموقراطية حديثة تحاكم باسم الشعب السوري وبمحاكم سورية كل من ارتكب جريمة بحق السوريين من أي خلفية كانت، مفتاح طريق العدالة هو زوال النظام، وهو ما أصبح بيد المجتمع الدولي بعد أن حصل ما حصل للثورة السورية، والذي يمتلك وثائق ومستندات تأخذ النظام من رأسه حتى أصغر متعاون معه إلى المقاصل لا إلى السجون، هل سيفعلها المجتمع الدولي؟! هل سيحاكم النظام ورأسه وحلفاءه؟ هل سيحاكم الميليشيات وتجار الموت والممولين للسلاح؟ وربما سيكون السؤال هو: من سيحاكم من ما دام العالم كله تقريبا بات متورطا في الشأن السوري وجاعلا من سوريا بؤرة لتصفية الحسابات وإعادة ترتيب التحالفات السياسية والعسكرية والاقتصادية بينما يترك السوريون في مهب الموت والقهر والحزن.
أما الحديث عن رفض محاكمة رسلان نهائيا واعتبارها حدثت لمجرد أنه (سني) فهو من أنواع المبالغات المشابهة لاعتبار محاكمته مفتاح العدالة السورية، والمبالغات والتهويل والتخوين باتت من السرديات اليومية في حياة السوريين التي يمكنها تمييع أية قضية مهما كان شأنها مهمًا.
وبالمناسبة هل فكر السوريون بتشكيل لوبي قضائي كبير يجمع شهادات سوريي الخارج والمخيمات لرفع قضية جماعية ضد بشار الأسد تحديدا كونه المسؤول الأول والمباشر عن كل الجرام المرتكبة في سوريا منذ عشر سنوات وحتى الآن؟ أليست دعوى قضائية كهذه يمكنها أن تكون هي البداية الحقيقية لتأسيس عدالة سرية يبنى عليها لاحقا؟