icon
التغطية الحية

"الطبل في دوما والعرس في حرستا".. كيف تعكس الترندات هوية المجتمع السوري؟

2025.01.09 | 15:48 دمشق

75757
+A
حجم الخط
-A
إظهار الملخص
- في ظل حكم تنظيم "الدولة" للرقة، كنت أدوّن يومياتي على الفيس بوك، حيث تواصل معي العديد لفهم الوضع بعيداً عن تهويل الإعلام، مما يعكس تعقيدات الهوية والانتماء.

- تثير أحداث بسيطة مثل عدم مصافحة أحمد الشرع لوزيرة الخارجية الألمانية جدلاً على وسائل التواصل، مما يعكس تركيز الناس على قضايا هامشية في واقع معقد، وتحتاج هذه الترندات لدراسات لفهمها.

- الأسئلة الفقهية تحمل دلالات سياسية، حيث يحاول الناس نزع الشرعية عن السلطة أو فضح الفقهاء المتحالفين معها، مما يعكس حنكة في استخدام الأسئلة للتعبير عن الاعتراضات السياسية.

في بدايات سيطرة تنظيم "الدولة" للرقة، كنت أدون يومياتي ومشاهداتي على الفيس بوك تحت عنوان "يوميات مواطن تحت حكم داعش". تتعدد المواضيع وتختلف المشاهدات تحت هذا العنوان العريض، وكان يتواصل معي في تلك الأيام كثير من المهتمين للوقوف على حقيقة المشهد بعيداً عن تهويل الإعلام الغربي.

أذكر أن شخصية سورية بارزة تواصلت معي تستفسر عن حقيقة وحشية التنظيم التي تظهر بمقاطع الفيديو الترويجية الخاصة به، وتبين لي لاحقاً أن هذه الشخصية لا تؤمن بالأديان (ليست ملحدة لكنها لا تؤمن بالرسالات السماوية بحسب تعبيرها). قالت لي معلّقة على مشاركة تحت عنوان "يوميات مواطن تحت حكم داعش- داعش وصلاة الجماعة"، إنها غير مؤمنة بالأنبياء ورغم ذلك عندما تشعر بضيق شديد تذهب إلى الكنيسة، حيث نشأت في أسرة دمشقية عريقة ذات أصول مسيحية.

أستذكر هذه الحادثة بعد موجة التأييد والانتقادات على حادثة عدم مصافحة أحمد الشرع لوزيرة الخارجية الألمانية، ويذكرني هذا الترند أيضاً بمصافحة الشيخ معاذ الخطيب لمعاونته السيدة سهير الأتاسي عند ترؤسه "الائتلاف السوري" في أول تشكيله.

للخطيب مرجعيته الإسلامية، وأذكر أن المدافعين عن الخطيب يومها استشهدوا بفتوى للمرحوم الشيخ يوسف القرضاوي في برنامج "الشريعة والحياة" على قناة الجزيرة، تبيح المصافحة بشروط محققة بمصافحة الخطيب حينذاك، وبمصافحة الشرع لوزيرة الخارجية اليوم -لو حصلت.

بعد البحث عن فتوى القرضاوي في أثناء كتابة هذه المقالة، تبين أنها وردت في الجزء الثاني من كتابه "فتاوى معاصرة" ضمن فصل اختلاط الجنسين (صفحة 277).

***

الجامع المشترك بين مصافحة الخطيب للمرأة، وعدم مصافحة الشرع للمرأة هو اشتعال السوشال ميديا السورية وحتى العربية بهذا الحدث الذي يعتبره البعض هامشيا لا يرتقي لمستوى الأحداث والتغيرات التاريخية الآنية.

إلا أن المتأمل والمتابع لترندات الثورة السورية منذ بدايتها يجد أنها غالباً ما تركز على قضايا بسيطة أو هامشية، بحسب ما يصفها البعض. فعلى سبيل المثال، نالت فضائح البريد الإلكتروني المسربة لبشار الأسد وعلاقاته المشبوهة بموظفات القصر الجمهوري قبل عدة سنوات، ولاحقاً ألبوم صوره "العارية" بعد هروبه، حيزاً مهماً من هذه الترندات.

هذه الترندات ليست حوادث عشوائية يسلط عليها الضوء "التافهون" كما يُنظّر البعض، إنما هي أنساق ثقافية مضمرة داخل وجدان الشعب السوري؛ أنساق تحتاج إلى عشرات الدراسات والمقالات لتفكيكها وتوضيحها.

قد يحسب للسوشال ميديا أنها سرّعت من وتيرة هذه الترندات، لكنها ليست جديدة فمنذ بداية "الحكم العضوض" كانت اهتمامات الناس تظهر بأشكال مختلفة وبصور متنوعة، فكانت تظهر على شكل أسئلة فقهية مكررة وكثيفة توجه إلى طبقة من العلماء المتحالفين مع السلطة، واليوم تظهر على شكل مشاركات عبر صفحات وسائل التواصل الاجتماعي. 

ما وراء السؤال: دلالات سياسية في أسئلة فقهية

تشكل هذه الاهتمامات (ترندات اليوم) نمطاً مكرراً عبر التاريخ. إذ يُركز الناس على تفصيلٍ هامشي في واقعٍ معقد، ويبذلون جهوداً كبيرة في مناقشته، وإثارة الأسئلة حوله. يشبه ذلك المثل الشعبي المتداول: "الطبل بدوما والعرس بحرستا".

هناك سوابق ثقافية مشابهة، فخلال تحولات الحكم الإسلامي من "خلافة نبوة ورحمة" إلى "مُلْك عضوض" كما جاء في الحديث الشريف، خضعت فتاوى الفقهاء وأسئلة الناس لمحددات السلطة الجبرية، وبما أن الذكاء الفطري للعوام -كما يحلو للسلطة أن تصفهم- مرتفع، فهم غالباً ما يطرحون أسئلة سياسية عن شرعية السلطة مُغلّفة بأسئلة فقهية بسيطة، محاولة منهم لإزالة الشرعية عن السلطة، أو فضح طبقة الفقهاء المتحالفين معها. فهم يدركون المشاكل الحقيقية للمجتمع، ويعلمون أن تصنيفهم بين "عَامَّة وخَاصَّة" هو تصنيف سياسي للسلطة الجبرية، لذلك يحاولون بحنكة إحراج الفقهاء عبر طرح مثل هذه الأسئلة.

فسؤال: "هل مرتكب الكبيرة كافر أم مؤمن؟" مثلاً، هو سؤال سياسي لنزع الشرعية عن السلطة. فبعد أن شرعن الفقهاء "بيعة المتغلب"، لم يتطرقوا إلى حكم الدماء التي أُريقت في سبيل ذلك، وتلك الدماء واضحة وجليّة لا يستطيع الفقهاء إنكارها. ولذلك يُكرّر "العوام" السؤال السالف.  

فإذا أجاب الفقيه بأن "مرتكب الكبيرة مؤمن"، فستسقط بذلك الشرعية عن الفقيه أمام الشريحة الواسعة من الناس. وإذا أجاب بـ "كفر مرتكب الكبيرة"، فهذا يعني سقوط شرعية الحاكم، وبذلك تذوب الحدود الفاصلة بين العوام والفقهاء، وتصبح الثورة على الحاكم فرض عين على كل مسلم سواء كان فقيهاً أم عامياً.

حنكة الناس المستترة خلف قناع الأسئلة البسيطة، قوبلت باختراع بعض الفقهاء لمنزلة بين منزلتين، وهي "الفسق"، بهدف الهروب من الاستحقاق السياسي بإسقاط شرعية السلطة، في محاولة لإعادة تسويق أنفسهم بأنهم قادرون على إطلاق حكم الفسق على رؤوس السلطة؛ فالفسق لا يستوجب سقوط شرعية الحاكم!

***

جميع الأسئلة السياسية المقنعة بأسئلة فقهية، يحاول الفقيه الفاهم لدوافعها التحايل عليها بإجابات من هذا النوع، بينما يتعامل معها الفقيه السويّ، أو غير المدرك لأبعادها السياسية، ضمن إطارها الفقهي فقط. 

وهناك قسم ثالث يدرك المرامي السياسية لأسئلة الناس المكررة، لكن أمانتهم تمنعهم من تبديل الأحكام بناءً على رغبة السلطان، منهم الإمام مالك، فقد كان يروي للناس حديث ابن عباس "ليس لمكره، ولا لمضطهد طلاق".

وبالطبع، فإن تضخيم أهمية حديث يتعلق بالأحوال الشخصية ناتجة عن دوافع سياسية، لدرجة أن يتدخل الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور وينهى الإمام مالك عن روايته، لكن الإمام لا يستطيع كتمان حديث شريف، حتى لو أدرك المنصور أن كثرة السؤال عن حديث "طلاق المكره" هو تساؤل العامة عن بيعة العباسيين التي يعلم الإمام مالك وأبو جعفر المنصور أنها بيعة إكراه وإجبار. فقد تزامنت كثافة السؤال عن طلاق المكره مع ثورة محمد النفس الزكية على الحكم العباسي.

بالعودة إلى حال السوريين اليوم، فإن اهتمام الناس بفضائح الفنانين، وآل الأسد الفاسدين، وبأخبار حكم مصافحة المرأة عند الشرع والخطيب، عبارة عن أنساق مضمرة، معبرة عن هوية المجتمع السوري المتجذرة بوجدانه، مثل صديقي الذي يذهب إلى الكنيسة عندما يشعر بالضيق رغم عدم إيمانه بالمسيحية.

أنساق مضمرة تبين لنا أن قيم المجتمع السوري ما تزال خطوطاً حمراء، وأن ممارسات النظام السادية من تهجير وقتل وتعذيب وتغييب لم ولن تفك الارتباط بين الإنسان السوري ومنظومة القيم التي ينتمي إليها.