كثيرة هي الأفلام التي تناولت حياة الضبّاط والجنود وخصوصاً في أوقات الحروب كالحرب العالمية الثانية، ومع أن تصوير ضابط وهو يقرأ كتاباً يهدف أساساً إلى إبراز الجانب الإنساني فيه، وإظهاره عارفاً بقضيته وأبعادها وبأسباب قتاله وليس مقاتلاً من دون وعي، فإن المشاهد التي صورتها كلاسيكيات السينما كانت تعكس بدرجة ما الواقع، فلم يكن الضابط الألماني أو السوفييتي يتلقّى العلوم العسكرية وحدها، فالضابط السوفييتي كان قد قرأ على الأرجح كثيراً من روايات تورغينيف وليرمانتوف، ولا بد أن رواية "الأم" لمكسيم غوركي كانت مقرراً إلزامياً عليه وعلى زملائه، أما في الفلسفة فقد كان على دراية بأفكار ماركس أو إنجلز ولينين مطلعاً على كتبهم مباشرة، أو بقراءة مقتطفات من أعمالهم، مثله في ذلك مثل الضابط الألماني الذي لا بد أن هولدرين ونيشته وهيجل كانت من ضمن المواد الدراسية في أثناء حياته التعليمية...إلخ.
من الأفلام التي تندرج في هذا السياق فيلم حياة الآخرين. تدور أحداث الفيلم في ألمانيا الشرقية في ثمانينيات القرن العشرين، وتستمر عدسة المصور برصد التحوّلات التي أصابت حياة شخوصه بعد انهيار جدران برلين عام 1989م، وما تبعها من أحداث أدّت إلى انهيار المعسكر الشيوعي وإعادة توحيد ألمانيا.
ومع أن الخط الرئيس للفيلم يحاول الكشف عن الوسائل والطرق التي تجسّست بواسطتها الشرطة السرية في ألمانيا الشرقية على المواطنين، فإن العمل يضم عدداً من الخيوط الدرامية الأخرى، يتناول أحدها التحوّل في حياة ضابط مخابرات، وذلك يكلّف بالتجسّس على كاتب مشكوك في ولائه، ثم تقوده مراقبة الكاتب وحبيبته وأصدقائه إلى عالم القراءة عبر كتاب لبريخت يسرقه من شقة الكاتب في إحدى الزيارات الكثيرة التي يضع فيها أجهزة التنصت في البيت أو يتأكّد من سلامة عملها.
جال في خاطري سؤال واحد: لماذا لم يحدث مثل هذا التغيّر لدى كثير من الضبّاط السوريين الموالين للنظام؟ لماذا لم ينشق ضابط واحد من البنية الصلبة للنظام؟ قد يكون من السهل تفسير هذا بالبعد الطائفي، ولكن الظاهرة الإنسانية تبقى دائماً مجالاً خصباً للقراءات والتفسيرات التي لا تتناقض فيما بينها..
وبسبب هذا الانغماس في حياة الكتاب والصحفيين والمسرحيين، يبدأ التحوّل في حياة الضابط الذي يتستر على أفكار الكاتب ونشاطاته المناهضة للنظام الديكتاتوري، وكذلك يخفي معرفته بأن الكاتب نشر باسم مستعار تقارير عديدة عن الحياة البائسة في صحيفة ديرشبيغل بألمانيا الغربية. وحين ينكشف أمره يحوله رئيسه وزميله السابق إلى وظيفة هامشية هي فتح الرسائل بالبخار من أجل الاطلاع على ما يكتبه الناس لأهلهم وأحبائهم وأصدقائهم في ألمانيا الغربية.
في أثناء مشاهدة الفيلم، جال في خاطري سؤال واحد: لماذا لم يحدث مثل هذا التغيّر لدى كثير من الضبّاط السوريين الموالين للنظام؟ لماذا لم ينشق ضابط واحد من البنية الصلبة للنظام؟ قد يكون من السهل تفسير هذا بالبعد الطائفي، ولكن الظاهرة الإنسانية تبقى دائماً مجالاً خصباً للقراءات والتفسيرات التي لا تتناقض فيما بينها، وإن كانت تلك القراءات تلقي الضوء على هذه الظاهرة من خلال زوايا متعددة مختلفة في اتساعها وشمولها بكل تأكيد.
في ظني أنّ واحداً من أهم الأسباب التي أدّت إلى ما أشرت إليه أن القراءة لدى الضبّاط في سوريا تكاد تكون فعلاً نادراً، وهو ما يدفع المرء للسؤال عن أسباب هذا الغياب وتبعاته.
على مدى عقود من سيطرة حزب البعث، أدى أكثر السوريين خدمتهم الإلزامية في الجيش ضباطاً وصف ضباط وجنوداً، ولعل من الملاحظات التي يمكن تسجيلها غياب القراءة بين الضبّاط العاملين ونفورهم من حملة الشهادات الجامعية الذين كانوا يخدمون ضباطاً مجندين، والنظر إليهم بازدراء. سبب هذا النفور هو كره متأصل للثقافة، لأنّ الضابط المجنّد يعد من وجهة نظرهم شخصاً مثقفاً يجب ازدراؤه سواء أكان هذا الازدراء ناتجاً عن الغيرة أم ثمرة للجهل بأهمية الثقافة وحامليها.
هذا النفور من الثقافة وكرهها يناقض كلياً الصورة التي كانت للضابط السوري في العهود السابقة، فمنذ تشكّل الدولة السورية حتى سقوطها بيد الضباط الريفيين، في آذار عام 1963م، كانت المؤسسة العسكرية تستقطب فئات مثقفة، لأنّ المنابت الاجتماعية للضباط كانت في مجملها مدنية لديها هم قومي عربي، ولكنها في الوقت نفسه منفتحة على الثقافة والفكر وعلى اتصال بالنشاط الثقافي وما يدور من نقاشات فكرية على الصعيد العام. باختصار، كان أغلب الضباط -ولاسيما القادة- ينتمون إلى الفئات الاجتماعية الأكثر وعياً وانفتاحاً.
مع تحوّل الجيش إلى مؤسسة غير وطنية، هيمنت الفئات الريفية على الجيش، وعلى خلاف أسلافهم لم يكن لدى هؤلاء الضبّاط أي اتصال بعالم الفكر والثقافة إلا من خلال ما توفره الكتب المدرسية من معلومات وما يصل إلى أيديهم من منشورات دعائية صادرة عن حزب البعث والإدارة السياسية في الجيش، ولا داعي لشرح ما تتضمنه تلك المنشورات، فأغلبها تستعرض خطب الرئيسين الأب والابن، أما ما تتضمنه من نقاشات فمصوغ بلغة إيديولوجية جامدة تسهم في تحجر الوعي وزيادة انغلاقه وتقوقعه.
لم يعد الترقي خاضعاً لمعايير الكفاءة والمهنية، فإضافة إلى البعد الطائفي بالصعود في سلم الرتب العسكرية، يأتي معيار الولاء والحساسيات المختلفة داخل الجماعة الأهلية نفسها، وهو ما ألغى أي معيار ثقافي أو فكري، بل إنّ الضابط الذي يقرأ (وهو حالة نادرة) يغدو محل شك من قبل نظرائه، لأنّ القراءة انفتاح على عوالم ورؤى أخرى خارج القوقعة التي رسمتها الأسدية..
ومع ازدياد هيمنة فئة أهلية على الجيش، لم يعد الترقي خاضعاً لمعايير الكفاءة والمهنية، فإضافة إلى البعد الطائفي بالصعود في سلم الرتب العسكرية، يأتي معيار الولاء والحساسيات المختلفة داخل الجماعة الأهلية نفسها، وهو ما ألغى أي معيار ثقافي أو فكري، بل إنّ الضابط الذي يقرأ (وهو حالة نادرة) يغدو محل شك من قبل نظرائه، لأنّ القراءة انفتاح على عوالم ورؤى أخرى خارج القوقعة التي رسمتها الأسدية، ولا سيما أن الوسط الاجتماعي الذي ينتمي إليه أغلب الضبّاط كانت الفئة الأكثر قراءة واطلاعاً فيه تنتمي إلى تيارات معارضة لنظام الحكم، وعلى رأسها حزب العمل الشيوعي وملحقاته.
هكذا أصبح الخواء الفكري والثقافي سمة أساسية في الجيش السوري، وخصوصاً عند فئة الضباط العاملين الذين ارتكسوا بفعل عقود من التجهيل إلى وعيهم الأهلي متجاهلين أبسط ما تفرضه عليهم مهمتهم العسكرية: الولاء للوطن لا الجماعة الأهلية، والدفاع عن حدود البلاد لا القتال من أجل النظام.
تُصوّر التماثيل القديمة الملوك والقادة بأجساد أسود ورؤوس بشر، أي: قوة الأسود وفكر الإنسان العاقل، كما في تمثال أبو الهول الشهير. العسكرية السورية مختلفة كلياً، لأنها عودة إلى حياة الغابة: وحش مفترس دون قيود. لا داعي للسؤال بعد ذلك عن السبب الذي أوصلنا إلى هذا الجحيم.