في قطنا البلدة القريبة من دمشق ولد الشّيخ صالح بن محمّد سنة 1835م وكعادة أبناء الرّيف انتقل بعد بلوغه قدرًا من الفتوّة إلى دمشق طلبًا للعلم فيها.
والانتقال من قطنا إلى دمشق في ذلك الوقت هو سفرٌ وشدّ رحال، ومفارقةٌ للأهل والخلّان، واغترابٌ عن الدّيار.
في دمشق جلسَ في حلقات العلماء الكبار الذين أدرك الطبقة العالية منهم، وكلّما تقدّم به العمر شبّ علمه وتعاظمت نباهته ولفتت الأنظار قدراته، فأقام في دمشق وصار من أهلها، وصار العلماء يطلقون عليه اسم الشّيخ صالح قطنا نسبةً لبلدته التي خرج منها، وعائلة قطنا في مدينة دمشق اليوم تُنسب إليه.
-
أمينًا للفتوى ومشاركًا في كتابة مجلّة الأحكام العدليّة
في عام 1860م عقب أحداث زحلة وجبل لبنان والفتنة الكبيرة التي جرت بين الدّروز والمسيحيين وامتدّت إلى باب توما في دمشق؛ عُيّن الشّيخ أمين الجندي مفتيًا لدمشق وولاية سوريا.
وهنا يجدر التنبيه إلى أنّ هناك خلطًا كبيرًا يقع بين اثنين من الأعلام في القرن التّاسع عشر كلاهما اسمه الشّيخ أمين الجندي، فالأول هو الشّيخ أمين الجندي الشّاعر المشهور وصاحب الموشّحات البديعة، وهو من العلماء الفقهاء في زمانه، وقد توفي عام 1841م، وهو غير المفتي الشّيخ أمين الجندي الذي تولى الإفتاء في دمشق عام 1860م وعزل منه عام 1868م وتوفي عام 1879م.
والشّيخ أمين الجندي مفتي دمشق وولاية سوريا ينحدر في أصله من معرّة النّعمان، وولد فيها عام 1813م، وكان والده مفتيًا للمعرّة، ثمّ سافر والده به إلى حمص وأقام بها ويُنسَب لحمصَ لهذا السّبب، ثمّ استقرّ به المقام في دمشق وتدرّج في طلب العلم حتّى غدا من أبرز العلماء وتمّ اختياره مفتيًا عام 1860م.
عقب اختيار الشّيخ أمين الجندي لمنصب الإفتاء اختار أن يكون الشّيخ صالح قطنا أمينًا للفتوى، وهنا لا بدّ من بيان المقصود بمنصب أمين الفتوى.
أمين الفتوى هو عالمٌ يختاره المفتي ليكون معه في دار الإفتاء، وهو المسؤول عن مقابلة المستفتين، وكتابة المسائل التي يقدمونها، فهو يناقش السائل في سؤاله؛ لكي يصل إلى الصياغة السليمة للسؤال حتى لا يحتمل إجابات مختلفة أو تأويلات متعددة. وبعد أن يكتب المسائل يقدمها للمفتي، فيكتب المفتي الجواب عليها بنفسه، أو يملي الجواب على أمين الفتوى، وسُمي أمينًا لأن المفتي ائتمنه على ما يمليه، فلا يكتب غيرَ ما سمع، كما يُسمى أحيانًا "كاتب الفتوى". وغالبًا ما يكون كاتب الفتوى أو أمينها تلميذًا للمفتي تلقى العلم على يديه، أو عالمًا متقنًا رأى فيه المفتي من الأمانة والعلم ما يؤهله للعمل في تلك الوظيفة المهمة، وقد تتسع مهمة بعض أمناء الفتوى فيقوم بجمع فتاوى المفتي ويصنفها في مصنف خاص، وقد كانت لأمين الفتوى مكانةٌ عالية بين العلماء وعامّة النّاس على حدٍّ سواء.
اللّافت للنّظر أنّ كلًّا من مفتي دمشق الشّيخ أمين الجندي وأمين الفتوى الشّيخ صالح قطنا لم يكونا دمشقيّين، ولم يُثر هذا حفيظة العلماء والدّعاة في دمشق حينها، وهذا على خلاف الحال الذي آلت إليه الأمور عقب الاستقلال عمومًا وعقب اغتصاب حزب البعث مقاليد الحكم في سوريا.
كانت أبرز المحطات في حياة الشّيخ صالح قطنا خلال أمانته للفتوى سفره إلى الأستانة عاصمة الخلافة آنذاك للمشاركة في كتابة مجلّة الأحكام العدليّة.
فقد ظهرت الحاجة منتصف القرن التاسع عشر في الدولة العثمانية إلى سنّ قوانين وتشريعات منظَّمة بنظام حديث ونوت السّلنطة أن تترجم القانون المدني الفرنسي إلى التركية غير أن رجل الدّولة البارز أحمد جودت باشا المتوفى سنة 1895م أعلن عن مقترحه تشكيل لجنةٍ لتدوين الشريعة الإسلاميّة في قالبٍ قانونيّ ردًّا على تغريب القانون، وكان هذا القانون هو "مجلّة الأحكام العدليّة" التي استمرّ العمل فيها قرابة ستّة عقود، وانتدب لها فقهاء المذهب الحنفي البارزين في الدّولة العثمانيّة آنذاك.
كان الشّيخ صالح قطنا أحد العلماء الذين تمّ انتدابهم مع مفتي الشّام الشّيخ أمين الجندي للمشاركة في تأليف مجلّة الأحكام العدليّة فسافر إلى الأستانة وأقام بها قرابة ثلاث سنوات قبل أن يعود إلى دمشق وقد علا شأنه وارتفعت مكانته أكثر من ذي قبل.
-
مفتيًا معزولًا
مشاركة الشّيخ صالح قطنا في تأليف وتدوين مجلّة الأحكام العدليّة أتاحت له شبكة معارف واسعة من المسؤولين والأمراء والوجهاء في الدّولة العثمانيّة، غير أنّه كان معروفًا عنه أنّه لا يحابي ولا يجامل وينصح الأمراء والمسؤولين بكلّ وضوحٍ وصراحة، وكان المسؤولون على اختلاف مواقعهم يهابونه ويجلّونه لما يرون فيه من الرّزانة والحزم والزّهد بما في أيديهم من الجاه والمال.
وفي سنة 1898م تولّى منصب الإفتاء عقب وفاة المفتي الشّيخ محمّد المنيني، واستمرّ في الإفتاء قرابة ثلاثة عشر عامًا آلت إليه فيها مشيخة الفقه الحنفي وغدا من أبرز الأعلام في بلاد الشّام على الخصوص والدّولة العثمانيّة بشكلٍ عام.
وخلال فترة تولّيه للإفتاء لم تتغيّر سياسته في نصح المسؤولين وانتقادهم وعدم مجاملتهم مّما كان يتسبّب بضيق عددٍ من المسؤولين والوجهاء منه غير أنّ هيبته كانت تمنعهم من الإساءة له.
واستمرّ الأمر حتّى عام 1911م إذ كان في مجلسٍ يضمّ أحد كبار الشخصيّات من رجال الدّولة العثمانيّة، فتلّفظ هذا الشخص بعباراتٍ غير لائقةٍ فيها تطاولٌ وكفرٌ فيما يبدو أنّه استفزازٌ للمفتي الحاضر في الجلسة، فما كان من الشّيخ صالح قطنا إلّا أن قال له: لقد بانت منك زوجتك، وخرجت عن الإيمان، فعليك بالتّوبة وتجديد الإسلام، وخرج من المجلس مغضبًا، فثارت ثائرة ذلك الوجيه وسعى عند السّلطان العثماني محمد الخامس رشاد بن عبد المجيد الأول للتأليب عليه وتشويه صورته، فأصدرَ السّلطان قرارًا بعزل الشّيخ صالح قطنا عن الإفتاء وتعيين الشّيخ رضا الحلبي مفتيًا خلفًا له.
أظهر الشّيخ صالح قطنا لا مبالاةً تامّة وعدم تأثر بقرار عزله، وازدادت مكانته عند علماء عصره حتّى تفرّد في آخر عمره بمشيخة الفقه الحنفي فكان العلماء من مختلف الأقطار يرجعون إليه في مهمّات المسائل وبقي على حاله في عدم مجاملة الحكام والأمراء وعدم مداهنة الوجهاء إلى أن لقي ربّه عام 1917م.