الشق الإقليمي في التقارب التركي المصري

2024.09.07 | 05:21 دمشق

6511111111
+A
حجم الخط
-A

تقول "الحَتوتة" المصرية في أغاني الأطفال:
"حط القطة في الكَفَّة
القطة طلعت كيلو
واللحمة كانت كيلو
آدي اللحمة فين القطة؟
وآدي القطة فين اللحمة؟"

لافت طبعًا أن نسمع ونقرأ التحليلات نفسها في الإعلامين التركي والمصري: "بقينا على ثوابتنا في المواقف المعروفة والمعلنة"، وأخذنا ما نريد. إذا كان كل جانب تمسك بما يقول وحقق مبتغاه دون تقديم تنازلات، فمن الذي دفع الثمن؟ أو من الذي أوصل مسار الانفتاح في العلاقات التركية المصرية إلى ما هي عليه اليوم وبعد أكثر من عقد على الجفاء والخصومة والتباعد؟

تركيا ومصر قوتان إقليميتان لا يُستهان بهما. لكن عند اكتشاف حجم الأخطار المحدقة، تتراجع مسألة من تراجع أولًا ومن تمسك بثوابته. الثابت الوحيد في المواقف والسياسات هو قرار مواجهة التهديدات في الإقليم والتصدي لها، وهذا ما يستدعي الكثير من الليونة والواقعية. وهذا ما أوجزه الرئيس المصري وهو يردد: "زيارتي لتركيا تعكس الإرادة المشتركة لبدء مرحلة جديدة من الصداقة والتعاون بين دولتين محوريتين في الإقليم".

الوساطات العربية والخليجية، تحديدًا، كان لها دور كبير في دفع الأمور نحو التهدئة والحلحلة. المصالحة الخليجية-الخليجية كان لها دور أيضًا في دعم جهود التقارب بين أنقرة والقاهرة. بعدها جاءت خطوة مصافحة الدوحة والخلوة بين الرئيسين التركي والمصري على هامش المونديال لتكون فرصة ووسيلة لكسر جمود المحادثات الاستكشافية التي لم تدفع الأمور نحو النتيجة المرضية.

أردوغان ذهب أولًا في منتصف شباط المنصرم إلى القاهرة، وبعدها بأشهر جاء السيسي في زيارة الإعادة لتوقيع 18 اتفاقية متعددة الجوانب والأهداف على هامش اجتماعات مجلس التعاون الاستراتيجي بحلته الجديدة.

عدد الاتفاقيات مهم طبعًا، لكن الأهم هو فحواها وتنفيذ بنودها، وترتيب الأولويات في التنفيذ بعد طي صفحة الماضي.
كان لواشنطن وتل أبيب دور أيضًا في عملية تسريع التقارب التركي-المصري، تمامًا كما فعلت العديد من العواصم العربية. الفرق بين الحراكين هو أن المحور الأول كان يريد نسف هذا التقارب على المستوى الثنائي والإقليمي وعرقلته، بينما كان التكتل الآخر يريد تجيير هذا التقارب لصالح المنطقة وضرورة قطع الطريق على خطط تفتيتها وشرذمتها وزرع المزيد من الفتن والصراعات بين شعوبها. لذلك أصغت أنقرة والقاهرة لما يقال عربيًا وخليجيًا هنا.

المشهد الإقليمي القائم اليوم وتهديدات الانفجار على أكثر من جبهة ومشاريع الاصطفافات التجارية وعيون البعض باتجاه ثروات الطاقة في شرق المتوسط ومحاولات حبس تركيا في مربع ساحل مدينة أنطاليا السياحية، ومحاصرتها هناك بقرار غربي-إسرائيلي، والرهان على مواجهة تركية مصرية في القارة السمراء ولعب أوراق أزمات البلدين الاقتصادية والمالية الداخلية، كلها مسائل ساهمت في تحريك الأحجار نحو الانفتاح وتسريعه.

الحديث عن صفقات أو تبادل خدمات ممكن، لكن المسألة تحتاج إلى ترتيب طاولة متعددة الأطراف في التعامل مع هذه الأزمات، وكل طاولة سيكون لها خصوصيتها ومستلزماتها.

من الصعب حتمًا الحديث عن تنسيق ثنائي تركي-مصري في ملفات التباعد والخلاف الإقليمي بهذه البساطة والسرعة. هناك تشابك وتداخل معقد في العديد من هذه الملفات، وهي لا تعنيهما وحدهما، والقرار ليس بأيديهما فقط. هكذا هو الوضع في ليبيا والسودان والنيجر وإثيوبيا والصومال. الحديث عن صفقات أو تبادل خدمات ممكن، لكن المسألة تحتاج إلى ترتيب طاولة متعددة الأطراف في التعامل مع هذه الأزمات، وكل طاولة سيكون لها خصوصيتها ومستلزماتها. لا وساطة تركية بين أديس أبابا والقاهرة بجهود تركية قبل أن تنجح الوساطة التركية على خط أديس أبابا-مقديشو. ولا تقدم في الملف الليبي دون تنسيق مع اللاعبين الإقليميين الآخرين المؤثرين في الملف. لكن التقارب والتنسيق التركي-المصري قادر على تحريك كل هذه المسائل ودفعها نحو الحلحلة بعكس ما كانت عليه الأمور قبل عامين مثلًا. تطورات الوضع الأمني والسياسي على جبهة قطاع غزة وتشابه المواقف المصرية والإسرائيلية ودعم أنقرة لمواقف القاهرة وحراكها بهذا الخصوص شكل سببًا إضافيًا لتسريع زيارة الرئيس المصري باتجاه العاصمة التركية.

ما حرك ملف التقارب والتطبيع بين أنقرة والقاهرة وضرورة الإسراع في مراجعة المواقف والسياسات هو تفاعلات ومخاطر ما يدور في الإقليم. وربما لذلك تذكرنا فجأة ما قاله أحد أبرز وزراء الخارجية التركية إحسان صبري شغليان غيل قبل سنوات طويلة: "إذا دُعيت لمأدبة في إحدى العواصم الغربية قاسمها المشترك هو منطقة الشرق الأوسط، ولم تجد اسمك بين الحضور، فألقِ نظرة خاطفة على لائحة الطعام، قد يكون مدرجًا هناك".

من لا يعرف قيمة المصالحة، فعليه ألا يدخل في أي خصومة. ومن لا يقرأ جيدًا التحولات والمتغيرات الإقليمية ومتطلبات المرحلة، فسيظل يتحرك في دائرة لماذا تخلت أنقرة عن مواقفها وطروحاتها المعلنة قبل عقد؟ الأنظار قد تتوجه صوب الملف السوري هذه المرة، خصوصًا بعدما بدأت العواصم العربية تسترد ثقلها في التعامل مع هذا الملف. سيناريو تقارب تركي-مصري قابل للتحول إلى تنسيق أكبر هناك وترتيب طاولة عربية-تركية خارج المشهد الغربي-الروسي-الإيراني يحمل الكثير من المفاجآت والتطورات بين الاحتمالات أيضًا. فهل هذا ما تعد له بعض العواصم العربية بالتنسيق مع أنقرة؟

الإعلام المحسوب على الحكم يرد بالمقابل أنه لكل مرحلة متطلباتها، وأن متطلبات اليوم تستدعي مراجعة هذه المواقف والسياسات.

متطلبات تحسين العلاقات التركية-المصرية في إقليم يغلي لن تكون سهلة، والمنطقة تجلس في أكثر من ملف على كف عفريت. فمن أين سيبدأ الحوار في الملفات الإقليمية؟

تحرك سريعًا الإعلام التركي المحسوب على المعارضة باتجاه فتح أرشيف العلاقات التركية-المصرية في العقد المنصرم، وتذكير قيادات العدالة والتنمية في الحكم بما قيل وكتب وقتها، وطرح تساؤل: هل كان هناك ضرورة وحاجة للدخول في كل هذه المواجهات مع القاهرة؟ الإعلام المحسوب على الحكم يرد بالمقابل أنه لكل مرحلة متطلباتها، وأن متطلبات اليوم تستدعي مراجعة هذه المواقف والسياسات. لكن النصيحة التي وجهها الإعلامي التركي المعارض مراد يتكين للسياسيين بعد التقارب التركي-المصري الأخير هي ألا يستخدموا أبدًا عبارة "أبدًا لن" في خطاباتهم وأحاديثهم.

إزاحة الرواسب وترميم ما تضرر والبحث عن فرص التعاون وأشكاله سيسبق الحديث عن الوساطات والمقايضات الممكنة والمحتملة. وبعدها نتحدث عن تشابه الطروحات والمواقف في التعامل مع الملفات والأزمات والنموذج التركي-المصري في الإقليم.