الشرق الأوسط القديم.. الشرق الأوسط الجديد

2023.10.13 | 06:24 دمشق

الشرق الأوسط القديم.. الشرق الأوسط الجديد
+A
حجم الخط
-A

قبل مئة عام كان تشجيع التطبيع بين الأفراد: "اليهود والمسيحيين والمسلمين" في بلاد الشّام، أو حتى في الدولة العربيّة التي اتّفق عليها الشريف حسين مع وزير الخارجيّة البريطاني "مكماهون" - ما يعني ضمناً الاعتراف بحق شعوب المنطقة بالاتكاء على موروثها من العيش المشترك لبناء مدنيّة محلّيّة- كان ذلك ليكون أكثر منطقيّة وإنصافاً من اتهام شعوب وثقافة المنطقة بالقصور عن تحقيق المساواة بين الأفراد، ومن ثمّ إعادة تشكيل "الشرق الأوسط" بما يناسب الرائي من الغرب الأقصى والأوسط!

حصلت بريطانيا وفرنسا -من عصبة الأمم- على "حق" انتداب سوريا الكبرى لتمدين شعوبها، وسوريا الكبرى آنذاك امتداد جغرافيّ مفتوح وتكامل اقتصاديّ ممكن، واليهودي -مثل غيره من المسلمين والمسيحيين- جزء أصيل من نسيج المجتمع المحلّي، يمتلك العقار ويمارس مهنة أو تجارة كغيره، وخرجت جيوش الاستعمار المباشر من بلادنا بعد تقسيم الجغرافيا إلى "دول" على رأسها: حكومات ونخب تنهج "الفصل بين التراث وبين الدولة"، وجملة اتهامات للثّقافة المحلّية.

اليوم - كما في كل يوم من سيرورة التمدين خلال المئة عام الأخيرة- لا تزال تنصحنا النّخب الغربيّة بالواقعيّة الماديّة لنتحضّر ويقبل بعضُنا بعضاً بغض النظر عن الدين أو العِرق. في حين تمارس علينا تلك النّخب ازدواجيّة معايير تعيق تلك الواقعيّة!

وفي زمن التمدين ذاك -الذي لم تنصب خلاله المجتمعات الشرقيّة محارق لليهود أسوة بمحارق النزعة المادّيّة النازيّة ولا هجّرتهم باعتبارهم ساميين يستحيل قبول التساوي معهم- لكن وقعت أحداث -لا يعقل نسبتها إلى التراث المحلّي بعد الانفصال عنه- صبّت كلّها في نهاية المطاف -للأسف- في رفد تهجير أوروبا لليهود إلى فلسطين بيهود سوريين وعراقيين ومصريين، ما يعني أنّ مدنيّتنا الحادثة بالفعل والمتّهمة خسرت أحد أعضائها!

اليوم - كما في كل يوم من سيرورة التمدين خلال المئة عام الأخيرة- لا تزال تنصحنا النّخب الغربيّة بالواقعيّة الماديّة لنتحضّر ويقبل بعضُنا بعضاً بغض النظر عن الدين أو العِرق. في حين تمارس علينا تلك النّخب ازدواجيّة معايير تعيق تلك الواقعيّة!

وخلافاً لمواطن كندي لا موارد طبيعيّة في أرضه ولا أطماع دول متحضّرة ولا قداسة ولا تاريخاً لجغرافية منطقته، ولا حكومات مستبدة تمنع تمثيل مصالحه السياسيّة الواقعيّة؛ لعلّنا غير مخيّرين تماماً إنما مجبرون على معالجة سياقات عديدة لتفسير واقعنا: سياقات أيديولوجيّة دينيّة بعدد أدياننا وطوائفنا وما أكثرها، وسياقات واقعيّة مادّيّة تحسب بدقّة مصالح الأطراف العالميّة والإقليميّة، ثمّ مصالح الأطراف المحلّيّة المرتبطة بهذا الطرف أو ذاك؛ لكن بحال من الأحوال ليس للفرد منّا من فاعليّة كبرى.

عبد الوهاب المسيري مفكر إسلامي مصري لكنّه يفسّر حدث "إسرائيل" بمفردات الأيديولوجيّة الإسلاميّة؛ بل يعتقد أنّ الصّهيونيّة فرع عن الثقافة المادّية الغربيّة، وممثّل لمصالح الإمبرياليّة الغربيّة في إقامة دولة وظيفيّة تخدم هيمنته على موارد المنطقة!

نشأت الذريعة السياسية لإقامة "إسرائيل" وطناً قوميّاً لليهود خلال مرحلة الوعي الحداثي الأوروبي وصراعه البيني على الموارد الطبيعيّة؛ ما استدعى بدوره ذريعة تمدين ذلك العالم "المتخلّف/ الغني بالموارد" باستعماره، ثم انكفأ الاستعمار المباشر -بعد ارتكابه حربين عالميتين- فانسحبت جيوشه من معظم البلدان تاركة خلفها "إسرائيل" ووعياً يقول: لتنتصروا على إسرائيل والغرب عليكم بـ"فصل التراث الديني وغيره ليس عن الدّولة فحسب بل عن التمدين الحديث"، إضافة إلى نخبٍ سياسيّة وثقافيّة حافظة لمعايير الغرب الذي يجب أن نكون صورة عنه!

ورغم أنّ الغرب نقد تراثه الحداثي والمجازر التي تسببت لـ "اليهود والغجر والمعوقين وكبار السن"، فاعتذر مطوّلًا لليهود، إلّا أنّه ظل متعنّتاً أمام غير اليهود من أفارقة وآسيويين، وظلّت "إسرائيل" -الفكرة النّاشئة في حقبة الحداثيّة القوميّة الأوروبيّة والبحث عن الموارد- تتلقى دعماً جديداً من وعي غربي طهراني فقط من إبادة اليهود؛ وظلّ نموذج "إسرائيل": الدولة التي لا تفصل بين الدين وبين الدولة؛ بل تبني مشروعيّة وجودها على السرديّة الدينيّة؛ وظل التصنيف الغربي لأداء هذه "الدولة" باعثاً على التناقض!

مثل غالبيّة المسؤولين الغربيين الذين ينتهزون الفرصة للتعبير عن تطهرهم من النّازيّة جاءت كلمات رئيسة المفوّضيّة الأوروبيّة "أورسولا" -في شهر 4 من هذا العام - وهي تُهنّئ إسرائيل بذكرى إنشائها، وتصفها بالديمقراطيّة؛ في مبالغة لا تدّعيها إسرائيل ذاتها وهي تلغي شعباً فلسطينيّاً من الجغرافيا والتاريخ، وتمارس سياسة الفصل العنصري بحق الفلسطينيين وتحاصر مليوناً ونصفَ المليون منهم برّاً وبحراً وجوّاً في "غيتو" طوله نحو أربعين كيلومتراً وعرضه ما بين (5-15) كم اسمه غزّة!

لكن ثمة سؤال أساسي ربّما يجدر بوجدان الاتحاد الحضاري وحريّة الفرد وحقوق الإنسان مواجهته: هل كان إنشاء إسرائيل وما تلاها من:

  1. تقسيم بلاد الشّام.
  2. تهجير الشعب الفلسطيني.
  3. التحكم -ليس بمصير الفلسطينيين فحسب- بل بمصير شعوب المنطقة برمّتها..

هل كان هذا "خطأ تاريخيّاً" تسبب بآلام لملايين البشر الآخرين -غير اليهود الذين طردتهم أوروبا- أم ستظل مصالح الاستعمار تنكر آلام الملايين، وتدفع المال لمستشرقين وخبراء كـ"برنارد لويس" للدفع إلى اعتبار ما آلمنا "صحيحاً"؟!

ثمّة إسرائيل الآن؛ وحديثٌ عن شرق أوسط جديد، وتصوّر الجديد فرع عن تقييم القديم بطبيعة الحال، فإذا كانت "إسرائيل" هي "الصح" فهذا يعني أنّ كلّ ما حولها من تاريخ وجغرافيا وشعوب إنّما هي أخطاء ينبغي إصلاحها قياساً إلى "إسرائيل"!

محور الشرق الأوسط الجديد واضح ليس في تصوّرات مستشرق يهودي بريطاني أميركي كبرنارد لويس فحسب بل في الخرائط المنسوبة إليه منذ ثمانينيّات القرن الفائت كذلك، وفي تصريحات وزيرة الخارجيّة الأميركية السّابقة "كوندليزا رايس" عن الفوضى الخلّاقة في تسعينيّات القرن؛ وفي السياسة الخارجيّة الأميركيّة أو ما ينكر رؤيته أصحاب مقولة: "ليس لأميركا مشروع واضح للمنطقة"!

أين المدهش في قول رئيس الوزراء الإسرائيلي إنّه في صدد "تغيير وجه الشّرق الأوسط" في أعقاب "فيضان الشعب الفلسطيني الأخير" وما علاقة الانتفاضة الأخيرة إذا كان نتنياهو قالها قبل أسبوعين من ذلك على شاشة cnn بالعربي الكلام، وكان قبل ذلك أيضاً قد أشهر أمام الأمم المتّحدة خريطته التجاريّة ومسارها من الهند مروراً بالإمارات والسعوديّة والأردن فـ "إسرائيل"، وهو ما كان بايدن قد أعلن عنه خلال كلمته في قمّة العشرين أيضاً، ما يعني الكشف عن الجانب الاقتصادي من مشروع الشرق الأوسط الجديد!

إضافة إلى الغبن الذي يمكن أن يدفع أنظمة مستثناة من الجدوى الاقتصاديّة -كالصين وكإيران- إلى الشّغب، ثمّة شعب فلسطيني لم يعثر على وجوده في الخريطة، فثار من جديد دفاعاً عن وجوده

الجانب الاجتماعيّ  للمشروع ربّما يمكن تتبع مساره هو الآخر  في "الاتفاقيّات الإبراهيميّة" التي جرى الإعلان عنها عام 2020، ولا تزال السّعوديّة حتّى الآن -رسميّا على الأقل- خارج تلك الاتفاقيّات، ورغم استثناء العراق وسوريا ولبنان من الخريطة فإنّ تحوّل الخطاب السياسي والإعلامي في: العراق الذي أسقطت أميركا نظامَه، ولبنان الذي جاء نظامه السّياسي بعد حرب أهليّة، وسوريا التي تحوّلت ثورتها إلى "حرب أهليّة" -تحوّل الخطاب إلى تبنّي مفهوم "المكوّنات" والتسليم به كأنّه مسلَّمة يمارسها مناضلو "المكوّنات الديمقراطيّة" طواعية؛ كل ذلك يعبّر عن مناخ ما يتم الدفع به بغض النظر عن جدواه؛ إذ ما القيمة المدنيّة لقبول ابن القبيلة -العرقيّة أو الدينيّة- ابن قبيلته ديمقراطيّاً؛ إلّا أنّ التقسيم الهويّاتي بهذا الشّكل يتوافق -سبحان الله- مع خرائط برنارد لويس!

ثمة تصور واضح عن شرق أوسط اقتصاديّ جديد إذن، إلّا أنّه بذريعة قصورنا كـ"مكوّنات" لا يقبل بعضها بعضاً هذه المرّة، ومن ثمّ لا بدّ من تقسيمنا مجدّداً!

بالمقابل، وإضافة إلى الغبن الذي يمكن أن يدفع أنظمة مستثناة من الجدوى الاقتصاديّة -كالصين وكإيران- إلى الشّغب، ثمّة شعب فلسطيني لم يعثر على وجوده في الخريطة، فثار من جديد دفاعاً عن وجوده.