أحاول في هذا المقال أن أرجح أحد الخيارات الممكنة في المستقبل، بغض النظر عن الجغرافية النهائية التي سيستقر عليها شمال سوريا، وهل سيكون شرق الفرات (كله أو بعضه) جزءاً من المناطق التي ستتولى تركيا إدارتها وتنميتها في المستقبل أم لا. فخلال السنوات الماضية، تم التطرق إلى الكثير من السيناريوهات التي يمكن أن يؤول إليها الوضع في سوريا. حيث تم الحديث عن الصَومَلة واللّبنَنَة والأفغَنة، وتم تشبيه الحالة السورية بحالة البوسنة والهرسك. لكن لم يتم التطرق إلى حالة أخرى، قد تكون ممكنة لمستقبل شمال سوريا، هذا الشمال الذي تحاول تركيا بكل قوتها وإمكانياتها، أن يكون ضمن سيطرتها أو مجال نفوذها، لأسباب، أهمها على الإطلاق، حماية أمنها القومي، المتمثل في العديد من القضايا، على رأسها منع قيام دولة كردية متصلة على حدودها الجنوبية، لما فيه من مخاطر تقسيم تركيا نفسها لاحقاً، وما يعني ذلك من احتمالات الحرب الأهلية والمواجهات المسلحة وحروب الوكالة. أما ثاني الأسباب، فهو تأمين منطقة آمنة للسوريين، تتولى تركيا مسؤولية تطويرها وتنميتها، بما يضمن عودة أعداد كبيرة من اللاجئين الموجودين على أراضيها.
لكن يرجح الكثير من المراقبين والمحللين السياسيين عدم قدرة تركيا على البقاء في سوريا، طالما أن وجودها لم يكن بطلب من النظام
بسبب العداء التاريخي والتنافس التقليدي على الموارد الحيوية بين اليونان وتركيا، ونظراً للروابط المتينة دينياً وعرقياً بين القبارصة ذوي الأصول اليونانية ودولة اليونان، ظلت قبرص على الدوام تمثل مصدر تهديد للأمن القومي التركي
في دمشق، الذي يعتبرها قوة احتلال، ومن ورائه روسيا، الدولة الكبيرة، التي تتولى حمايته وإعادة تأهيليه على المستوى الدولي، وتضغط كثيراً في سبيل عودة كامل الجغرافيا السورية إلى سيطرة الأسد.
لكن ينسى هؤلاء، أن الوقائع لا تخضع دائما لمثل هذه السيناريوهات، وقد نشهد تطوراً مشابهاً لما حصل في قبرص الشمالية، التي تتشابه مع شمال سوريا في بعض القضايا الأساسية. أهمها؛ أن الشمالَين (السوري والقبرصي) يمثلان أهمية قصوى للأمن القومي التركي، وإن اختلفت التفاصيل الأخرى.
حيث أنه، وبسبب العداء التاريخي والتنافس التقليدي على الموارد الحيوية بين اليونان وتركيا، ونظراً للروابط المتينة دينياً وعرقياً بين القبارصة ذوي الأصول اليونانية ودولة اليونان، ظلت قبرص على الدوام تمثل مصدر تهديد للأمن القومي التركي. فهي فضلاً عن قربها الجغرافي (75 كلم)، يمكن في حال اتحادها مع اليونان والتواجد العسكري اليوناني على أراضيها، وعلى خلفية الثارات التاريخية القديمة بين اليونان وتركيا، أن تزيد من الحصار البحري على تركيا وتهدد أمنها، وتغلق منافذها البحرية في بحر إيجة المؤدية إلى الدردنيل والبوسفور، وكافة الموانئ التركية شرق البحر المتوسط. وهي أخطار تحسب لها تركيا ألف حساب.
وقبل أن أنتقل للحديث عن قبرص الشمالية (الدولة التي لا يعترف فيها أي كيان سياسي في العالم، سوى تركيا)، فإنني أود أن أؤكد، أنه بدلاً من أن يحافظ نظام الأسد على سوريا الوطن مستقلاً، فإنه استدعى دولاً كإيران وروسيا لمواجهة الثورة السورية، ليصبحان أطرافاً في قضية وطنية. فشَرَّع بذلك الاحتلال ومناطق النفوذ، وتدخلات الدول الإقليمية والعالمية، بهدف حماية مصالحها وأمنها القومي، وتنفيذ برامجها العابرة للحدود.
في عام 1960م نالت جزيرة قبرص استقلالها عن بريطانيا وأصبحت كياناً سياسياً مستقلاً وموحداً. اتفق خلالها كل من القبارصة الأتراك واليونانيين على إلغاء خطتي الاتحاد مع اليونان ومع تركيا، على أن يحكموا الجزيرة بموجب الدستور، الذي يُقسّم المناصب الوزارية والمقاعد البرلمانية والوظائف المدنية، حسب نسب متفق عليها بين المجتمعين ( 30% من مجموع المقاعد والوظائف للقبارصة الأتراك، في مقابل 70% للقبارصة اليونانيين).
لكن خلال السنوات الأولى، عاشت الجمهورية الوليدة الكثير من الأزمات الداخلية، واستقطاباً متزايداً بين المكونين الأساسيين للمجتمع القبرصي (الأتراك واليونانيين)، تخللها تعديلات دستورية، ولجوء إلى المحاكم العليا، ومواجهات مسلحة بين الطرفين، سقط فيها المئات من الضحايا، وهُدمت الكثير من المنازل والبنى التحتية، وحصلت موجات نزوح داخلية (نزح آلاف القبارصة اليونانيين من الشمال نحو الجنوب، بالمقابل، نزح آلاف القبارصة الأتراك من الجنوب نحو الشمال). أضف إلى عمليات نزوح خارجية باتجاه تركيا ودول أوروبا واستراليا. وخلال سنوات المواجهة بين الطرفين، التي امتدت منذ عام 1963 م إلى 1974 م، دعا كل طرف للاحتماء بدولته الأم (تركيا أو اليونان).
تدخلت تركيا عسكرياً لصالح القبارصة الأتراك، بعد الانقلاب العسكري الذي قام به القبارصة اليونانيون سنة 1974م، وسيطرت خلالها على ما يقارب 37% من مساحة الجزيرة الشمالية، ثم بدأت بتنظيم قوات مسلحة محلية، وأنشأت أحزمة آمنة تفصل بين شطري الجزيرة.
لم يعترف أي كيان سياسي بهذا التدخل، ورفض الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة لاحقاً إعلان قبرص الشمالية جمهورية مستقلة من طرف واحد سنة 1983م واعتبره باطلاً، ودعموا بالتالي قرار جمهورية قبرص "اليونانية"، التي أعلنت إغلاق كافة المطارات والموانئ الخارجة عن نطاق سيطرتها. كما أن الاتحاد الأوروبي اعتبر حل الأزمة القبرصية شرطاً أمام مفاوضات انضمام تركيا له.
من الناحية السياسية، اعتمدت قبرص الشمالية النظام الجمهوري النيابي شبه الرئاسي، الذي يترأس فيه رئيس الجمهورية الدولة، ويترأس رئيس الوزراء الحكومة، مع استقلال السلطة القضائية . في حين تمثلت السلطة التشريعية في مجلس الجمهورية، الذي يتألف من 50 عضواً ممثلين لخمس مقاطعات انتخابية.
أما في مجال النفوذ إلى العالم الخارجي، فتعتمد قبرص الشمالية نفس الكود التركي للاتصالات الدولية (+90 392)، حيث أنها لا تحظى بكود اتصالات دولي خاص بها، وينطبق ذلك على شبكه الإنترنت، حيث لا تمتلك نطاقاً أعلى في ترميز الدولة، ولكنها تحت النطاق الثانوي التابع لتركيا nc.tr. أما بالنسبة للبث التلفزيوني، فمحطاتها تبث عبر القمر التركي تركسات. فيما تعتمد الليرة التركية عملة محلية. ويحصل القبارصة الأتراك على جواز السفر التركي، حتى يتمكنوا من السفر حول العالم عبر المطارات التركية.
من الناحية الاقتصادية، تعتمد قبرص الشمالية أساساً على قطاع الخدمات (69% من الناتج المحلي الإجمالي بحسب إحصائيات عام 2007) والذي يشمل القطاع الصحي ,قطاع التجارة ,السياحة والتعليم. ويساهم القطاع الصناعي (صناعات خفيفة) بنسبة 22% من إجمالي الناتج المحلي, أما الزراعة فتساهم ب9% منه، ولكن نسبة كبيرة من الأعباء الإدارية تتكفل بها الحكومة التركية. وبغض النظر عن القيود المفروضة من قبل المجتمع الدولي, فإن اقتصاد قبرص الشمالية قد نما بشكل كبير، وكانت معدلات النمو في حجم الناتج المحلي الإجمالي في الفترة 2001-2005 على الشكل التالي 5.4%, 6.9%, 11.4%و 15.4% و 10.6%.
أما في مجال التعليم العالي، فيوجد فيها ست جامعات، خمسة منها أُسست بعد عام 1974م، أحدها جامعة شرق المتوسط التي نالت الاعتراف الدولي، وجامعات أخرى أصبح لها فروع حول العالم. في حين أن الجامعات الست معترف بها في نظام التعليم العالي التركي.
وفيما يتعلق بمجال الحريات والديمقراطية، فقد تمتعت جمهورية
تركيا تصرفت بحزم كبير، رغم كل التهديدات الدولية، ورغم أن الأمم المتحدة نفسها اعتبرت التدخل غير شرعي، وطالب تركيا بسحب قواتها، لكن الأخيرة دافعت حتى النهاية عن مصالحها وأمنها القومي
شمال قبرص بسجل جيد في مجال حقوق الإنسان وحرية الصحافة، تجاوزت فيه السجل الخاص بحقوق الإنسان في تركيا.
ورغم أن حالة الحصار والمقاطعة الدولية لم توقف حركة التطور الاجتماعي والحضاري كما ذكرنا، إلا أن قادة جمهورية شمال قبرص يسعون دائماً لإنهاء الحصار وبناء علاقات طبيعية مع المجتمع الدولي.
مما سبق، نلاحظ أن تركيا تصرفت بحزم كبير، رغم كل التهديدات الدولية، ورغم أن الأمم المتحدة نفسها اعتبرت التدخل غير شرعي، وطالب تركيا بسحب قواتها، لكن الأخيرة دافعت حتى النهاية عن مصالحها وأمنها القومي. كذلك يتم التعامل اليوم مع الوجود التركي شمال سوريا، الذي يعتبره معظم المراقبين، مؤقتاً وغير قانوني، في الوقت الذي نشهد ضغوطاً ومفاوضاتٍ مستمرة، بين تركيا وبين أهم اللاعبين الدوليين في سوريا، أمريكا الدولة العظمى، وروسيا الدولة الكبيرة المساندة للأسد. إلا أنني أستطيع القول، حسب متابعتي للسياسة التركية، إن الانسحاب التركي من سوريا لن يكون في المدى القريب ولا المتوسط، ولك أن تلاحظ عزيزي القارئ، قِطعَات الجيش التركي التي باتت موجودة في العمق السوري (إدلب وشمال حلب تحديداً)، في الوقت الذي أخذت الحكومة التركية على عاتقها تنمية هذه المناطق، وبدأت خدمات البريد (PTT)، وتنظيم الحدائق، وتطوير عمل المجالس المحلية والبنية التحتية، وإعادة ترتيب تشكيلات الجيش الحر، إضافة لخدمة الاتصالات التركية التي تُخدّم شمال سوريا منذ عدة سنوات.
وعلينا ألا ننسى أخيراً، أن تركيا باتت تربط انسحابها من سوريا بتأمين انتخابات حرة ونزيهة يشارك فيها كل السوريين، داخل سوريا وخارجها. هذه "الانتخابات النزيهة"، التي لن تحصل، حتى لو شارك فيها بشار الأسد، وكان صاحب الحظ الوحيد بالفوز، بسبب طبيعة النظام الذي يعتمد على المعارك الصفرية، وعدم وجود أي هامش تفاوضي أو إصلاح محتمل في بنيته، وكون الأشخاص الآخرين الذين يمكن أن ينافسوه، لا يتمتعون بأي قدرات تنظيمية أو حواضن مجتمعية.