قرّر مجلس الوزراء المصري إعادة العمل بالتوقيت الصيفي بدءاً من نهاية أيلول الجاري، وهو ما أثار سخرية كثيرين، فقد غرّد أحد المنتقدين قائلاً: "الحكومة رجّعت التوقيت الصيفي، الله يرحمه جلال عامر، كان كتب في مرة، الثورة لم تنجح في تغيير شيء غير التوقيت الصيفي، حتى دي استكتروها علينا".
في الوقت ذاته تقريباً توصّلت الحكومة البريطانية إلى اتفاق مع الاتحاد الأوروبي بخصوص التجارة بينهما، وأعلن مكتب رئيس الوزراء أنّه سيتم إنشاء طريقين في المستقبل للبضائع التي تنقل إلى أيرلندا الشمالية من بريطانيا العظمى. سيكون هناك مسار أخضر للبضائع التي تكون وجهتها النهائية هي مقاطعة أيرلندا الشمالية، ومسار أحمر منفصل للبضائع التي وجهتها النهائية أيرلندا التي هي جزء من الاتحاد الأوروبي.
تبدو المقارنة بين تعامل الحكومتين المصرية والبريطانية مدخلًا مناسبًا لطرح فكرة هذا المقال، فما هي أولويات الحكومات مثلًا مقابل أولويات المواطنين، وما هي مسؤوليات الحكومات أمام شعوبها، وما المقياس الذي يمكن اعتباره عند النظر إلى هذه الأولويات؟
هذه الأسئلة يمكن تكرارها ملايين المرّات لمقابلة مصالح فئات مختلفة ضمن سلّم أولويات كل منها، وهذا جزء من طبيعة المجتمعات البشرية، فهو سؤال غير مطروحٍ في الطبيعة التي تمضي وفق قوانينها الخاصّة، الموضوعية والبعيدة عن إرادة البشر، على العكس من ذلك، فإنّ البشر أفرادًا وجماعاتٍ، يصنعون أولوياتهم باعتبارها موضوعاً للتفكير والإدراك، فتدخل المفاضلة في حساباتهم بين ما يريدونه وبين ما يحصلون عليه.
يبدو واضحاً الدافع في سعي رئيس الوزراء البريطاني لتحقيق موازنة بين استحقاقات الانفصال عن الاتحاد الأوروبي من جهة، وبين مصالح المواطنين التابعين لحكومة التاج في أيرلندا الشمالية من جهة ثانية. فهؤلاء، الذين غالبيتهم من البروتستانت الوحدويين، يشعرون بأنهم محلّ تمييز سلبي في المعاملة حينما يتعلّق بالبضائع الواردة من المملكة إلى أراضيهم التي هي جزء منها، فكان لا بدّ من التوصل إلى حالة تمنع الإجحاف بحقوقهم، وبالتالي تشعرهم بأنّ دولتهم لم تتخلّ عنهم. بينما لا يمكن للمواطن المصري أن يرى في العودة إلى موضوعات مثل التوقيت الصيفي والشتوي، إلا استهتارًا بالأزمات الخانقة التي تعصف بالبلاد وتسحق المواطنين. فعلى سبيل المثال، ارتفع سعر (بنزين الفقراء المعروف باسم بنزين 80) منذ عام 2014 خلال حكم الرئيس السيسي ما نسبته 872%، أي أنّ السعر تضاعف تسع مرّات تقريبًا. مع ذلك لم تجد الحكومة المصرية حرجاً في مناقشة قضايا هامشية مثل تغيير التوقيت!
واضح هنا إذن الفرق في أولويات حكومة ريشي سوناك تجاه ناخبيها، وبين أولويات حكومة مصطفى مدبولي تجاه المصريين، فالأولى مسؤولة أمام الناس، وتسعى لتحقيق مصالحهم وبالتالي تحقيق إرضائهم، بينما الثانية لا تجدُ في مجلس الشعب سلطة حقيقية قادرة على محاسبتها، فلا تقيم لها وزناًَ ولا تعيرها انتباهاً عند اتخاذ قراراتها، المهم لديها رضى من عيّنها.
في الوقت الذي أعلنت به الحكومة التركية عزمها بناء مساكن للمتضررين من الزلزال على نفقتها، فرضت حكومة نظام الأسد، تحت طائلة المساءلة القانونية، على أصحاب المباني المتضررة رسمًا يتوجب دفعه لفحص مدى مطابقتها لشروط السلامة
كذلك في الوقت الذي أعلنت به الحكومة التركية عزمها بناء مساكن للمتضررين من الزلزال على نفقتها، فرضت حكومة نظام الأسد، تحت طائلة المساءلة القانونية، على أصحاب المباني المتضررة رسمًا يتوجب دفعه لفحص مدى مطابقتها لشروط السلامة، تجاوز الرسم مبلغ مليون و250 ألف ليرة سورية، أي عشرين ضعف الراتب الشهري للموظف العادي.
في المثال الأول عبّرت الحكومة التركية عن أولوياتها، وعلى رأسها حماية المواطنين الأتراك وطمأنتهم. بينما في المثال الثاني، لم يكن في سلّم أولويات حكومة نظام الأسد أيّ اعتبار للناس، وجلّ ما اهتمت به إظهار أنها بادرت لإيجاد حلول للكارثة، لاستجرار الدعم الدولي الذي ظهرت بوادره منذ الساعات الأولى لوقوعها. هنا تتصرّف الحكومة بواجبها تجاه من عينها، أي تجاه رأس النظام، وقد عبّرت عن أولوياتها بنيل رضاه، وعن أولوياته باستثمار الكارثة للنجاة من العزلة الخانقة.
لا شكّ بأنّ الحزب الحاكم في تركيا، وجد نفسه في خانة الضغط والمنافسة مع أحزاب المعارضة، خاصّة أنّ الانتخابات على الأبواب، لكنّ ذلك هو بالضبّط بيت القصيد، فالطرفان يتنافسان على الفوز بأصوات الناخبين. وحتى لو استخدم كلاهما طريق تقديم المساعدات والوعد بها لتجاوز آثار كارثة الزلزال للوصول إلى ذلك، فإنهما يعتدّان بالمرجعية النهائية لسلوكهما هذا، ألا وهي القبول الشعبي، (رغم وجود إشارات على هذا المفهومِ ذاته، حيث تُخرجُ بعض الأحزاب القوميّة من حساباتها جزءًا وازنًا من الشعب التركي، هو ذاك الجزء الكردي القوميّة). هنا يكون مصدر الشرعية داخلياً، مبنياً على أسس تعاقدية بين المواطنين، تفترض في مقدماتها إعطاء الثقة لمن يقدّم الخدمات أكثر، لمن يلتزم بالواجبات المفروضة عليه أكثر. يسعى الساسة للسلطة أو للمجد من باب إرضاء الناس، وهذا هو جوهر الديمقراطية، ولا يسيء للمتنافسين أن يتخذوا من مصالح الناس ميدانًا للصراع، ما دامت النتيجة في النهاية ستصبّ بمصالح أصحاب الميدان، فهم يصوتون للمشاريع لا لأصحابها، وإن كان العَرَضُ موجودًا ومقبولًا بالوقت ذاته، ففي النهاية لا بدّ من فوز فريقٍ وخسارة فريق آخر.
بينما في المقابل، وجد "الأسد" نفسه أمام سانحة لا مثيل لها للبقاء والتمدد، ويبدو الشعار ملائماً له أكثر من ملائمته لمطلقيه الأساسيين عندما كانوا يحكمون ثلث سوريا وثلث العراق. لا يسعى "الأسد" للحصول على أصوات الناخبين، فهؤلاء غير موجودين بالنسبة إليه. المتضررون السوريون من الزلزال غير مرئيين، وكذلك غير المتضررين، ولا اعتبار لهم بين أولويات نظام الأسد ولا اعتبار لمصالحهم على الإطلاق، فشرعيّة وجوده لا يستمدّها من السوريين إلا إذا كانوا أمواتاً، وعلى يديه أو بسببه، وغير ذلك هم وقود لآلته الحربية، أو حقل متعة لجلاوزة أجهزته الأمنية، أو طرائد في سوريا وخارجها يستخدمهم ورقة ابتزاز أو ورقة مساومة. شرعية نظام الأسد الحقيقية يستمدّها من دوره في النظامين الإقليمي والعالمي، وليس صحيحًا أنّه معزولٌ عن العالم، بل هو على طاولة جميع الأنظمة، الديمقراطية منها والديكتاتورية وما بينهما. والدليل على ذلك أنّه ما من دولة في العالم، حتى تلك الدول التي دعمت الثائرين عليه، كانت قد قطعت تواصلها الأمني معه، وها نحن الآن أمام موجة إعادة تأهيله وتدويره، وآخر فصولها ما نسمعه عن اتفاقات لإعادة فتح القنصلية السعودية في دمشق والتحضير لاستقباله في القاهرة.
يبحث الحكّام المنتخبون عن أولوياتهم في صناديق بريد المواطنين، بينما يبحث السكّان في بلادنا المحكومة بالاستبداد عن أولوياتهم في حاويات القمامة، هكذا التقطت عدسة الكاميرا صورة أطفالٍ ينبشون حاويةً مركونةً أمام مبنى مجلس الشعب في دمشق، ربّما بحثاً عن مستقبلٍ ضاع للأبد.