السياسة كشأن عام.. امتحانات السويداء مثالاً

2024.07.13 | 06:38 دمشق

54544554
+A
حجم الخط
-A

لم يتوقف سؤالنا السوري عن دورٍ للعمل السياسي يعيد إنتاج هويتنا الوطنية كما نريدها أن تكون. السؤال الذي تكثف بصورة أوضح منذ بدء الثورة 2011 ولم يتوقف لليوم، كيف يمكننا الانتقال من عصر الاستبداد لعصر الدولة وإدارة شؤونها؟ دور النخبة والمعارضة السياسية؟

فيما أن حجم الكارثة التي نعيشها لليوم، استعصاء الحل والتغيير السياسي وحجم الخيبات التي مني بها الشارع الشعبي من تهجير ونزوح وقتل وعنف! وذات الأسئلة تطرح على أبناء السويداء اليوم، مرفقة بسلسلة من الامتحانات اليومية في سياق تظاهراتها السلمية: الاستمرارية وعدم الانجرار للعنف، تمكين الحالة الشعبية من المقاطعة العامة للانتخابات التي يزمع النظام إجراءها التفافاً على قرارات الحل السياسي وفق القرارات الدولية، واستعصاء الحراك السلمي عن تحقيق نتائج ملموسة على أرض الواقع وفي المعادلة السورية! ومضمون السؤال ذاته بات يحيل لموقع لا بد من تناوله نقدياً: عن أية سياسة نتحدث بالمبدأ؟ فجميع منصاتنا السياسية عجزت عن تحقيق التغيير السياسي والدخول في أتون مرحلة انتقالية، وهي التي لم تزل محطة تنازع فرضيات متعددة أيديولوجية أو براغماتية، لم تتمكن إحداها من إثبات جدارتها وفعاليتها.

هذا الوطن قد هُجر غالبية سكانه ودمرت معظم مدنه، وتحول الباقي منه لمزرعة تديرها وتؤجر أراضيها وممتلكاتها ثلة حاكمة استدعت كل صنوف الاحتلال وسطوة حكم العسكر ومعززة للنعرات الطائفية.

إجابات غير كافية

السؤال الذي يطرح نفسه تلقائياً: ما هو الفعل السياسي الذي يمكنه أن يصنع الفرق في سوريا ومجتمعها وشعبها؟ فإجابة سلطة النظام: محاربة الإرهاب والقضاء عليه حمايةً "للديمقراطية والعلمانية"، واستكمال استعادة كامل الأرض السورية، وإجراء تغييرات شكلية في بنيته وأجهزته الأمنية وإجراء انتخابات تشريعية وكأنها دولة ديمقراطية!

ولسان حالها يردد: القوة تصنع الحكم والسياسة وتحمي الوطن! فيما هذا الوطن قد هُجر غالبية سكانه ودمرت معظم مدنه، وتحول الباقي منه لمزرعة تديرها وتؤجر أراضيها وممتلكاتها ثلة حاكمة استدعت كل صنوف الاحتلال وسطوة حكم العسكر ومعززة للنعرات الطائفية، وكأن الكواكبي شاهد على عصرنا حين قال: "الطغاة يجلبون الغزاة"!

فيما أن إجابة المعارضات السياسية الكلاسيكية منها والمحدثة، فعلنا كل ما تمليه علينا السياسة من تشكيل أحزاب وتحالفات متعددة الأوصاف والأنماط، لتكون بديلة عن السلطة المستبدة القابعة في الحكم، ولسان حال غالبية هيئاتها: إذا ما استلمنا السلطة فسيعم البلد الخير! فيما لم تتفق فيما بينها لليوم على أرضية مشتركة في طرق إدارة المرحلة الثورية وتداعياتها وانكساراتها وشروطها الدولية والإقليمية.

والتي تتباين فيها لدرجة الخصام والتنافر بين رؤى أيديولوجية وأدوات نفعية براغماتية، تكاد تذرو آخر آمال السوريين كشعب بإمكانية التغيير السياسي وبناء الدولة واستردادها من حكم سلطة العسكر القائمة.

وسؤال البديل يمثل عقدة التوافق العام وتجاوزاً للصالح العام، وافتراض الأحقية والأهلية لجهة خلاف غيرها. فيما السياسة المطلوبة هي الإجابة على سؤال التغيير السياسي قبل المناصب الآنية والمستقبلية!

السياسة كشأن عام

السياسة المتعارف عليها عرفاً هي فعل السلطة والحكم، هي فعل "سوس" البشر وترويضها، كما ترويض الخيل. ونظريات الفعل السياسي المعاشة لليوم تتمثل في آليات ترويض المجتمع وطريقة قيادته وحكمه، والترويض هو العلامة الأبرز في معظم الممارسات السياسية الحزبية سلطة ومعارضة. وكأن الشعب السوري مجرد قبيلة وسياسيوها، المتناحرون فيما بينهم، يقيمون موقعة كبرى للوصول للحكم ولسان حال كل منهم يقول: أنا الزعيم الأوحد والأجدر! فيما السياسة كفعل في الشأن العام والمصلحة العامة هي الغائبة لليوم، وإلا لأنتجت إحدى النماذج القائمة السلطوية أو المعارضة فعلاً مختلفاً في حياة السوريين. فالفعل بالسياسي الموصوف بتركيزه على مصالحه أو قيمه الفكرية والشخصية أو على مصلحة جماعته المختارة دون أي اعتبار لمنفعة ومطالب الكل المجتمعي، أو الصالح العام، سينتج حكماً مستبداً حتى وإن حقق مصلحة جماعته، وديكتاتورية البروليتارية مثالاً واضحاً لا تخطئه عين.

الشأن العام والمشتقة من الكلمة اليونانية "بوليتيا"، أي الجمهورية. هي الحقوق المادية والمدنية والفكر والقيم بآن، والتي لا تنفك إحداها عن الأخرى. هي الفعل المتكامل الذي يحمل ثلاثية الوجود البشري كصالح عام، وتنعكس صورته بشكل جلي في الكل المجتمعي. الشأن العام هو العمل الموسوم بالقدرة على تجاوز عقدتي الأيديولوجيا المعتقدة في ذاتها أنها الأصلح، والنفعية التي تقف على الضد المباشر وتعتبر ذاتها صاحبة الواقعية السياسية. السياسة عمل في الفكر والأخلاق والقيم والمصالح بآن، وأي انفكاك بينها هو عمل في الشأن الخاص سواء كان حزبياً أو أيديولوجياً أو نفعياً. إذ يبدأ الاستبداد بالتشكل حين يبدأ الفعل السياسي بالانغلاق وفرض حلوله الخاصة على بقية الأطراف وتعميمها، حتى وإن كان موسوماً بالمعارضة واستبدال سلطة بأخرى.

تحقيق النتائج الملموسة في تحسين الواقع الاقتصادي والمعاشي لأبناء هذه المنطقة مرتبط بشكل عضوي بالتغيير السياسي السوري العام.

ويبدو أن هذا الجدل في علاج مشاكلنا لليوم لم تتحقق معه هذه التوأمة بين الحدود المادية للعموم المجتمعي وبين الفكر والقيم التي نحاول تطبيقها كنظريات. وهذه التوأمة في الواقع السوري تترسم حدودها في مصالح السوريين في المهجر والخيم والداخل السوري، وتجاوب المعارضة والنخبة السورية معها وقيمها التحررية العمومية. هي مصلحة العموم السوري في الاستقرار والأمان والسلم التي تنشدها مظاهرات السويداء السلمية. وهذه تتطلب فعلاً سياسياً مختلفاً قوامه التغيير السياسي بالمبدأ، لا البحث عن المكاسب الراهنة قيادةً أو منصباً مستقبلياً، والقدرة على حمل استحقاقاته الراهنة ومواجهة خطاب السلطة التي تحاول الالتفاف على القرارات الملزمة للحل السياسي وادعاء أنها الأصلح عن جماع المعارضات السورية المتخاصمة!

امتحانات السويداء

امتحانات السويداء الصعبة تكمن في:

  • استمرار تظاهراتها السلمية وإثبات فاعليتها من حيث كونها رافعة للحل الوطني يحقق الصالح العام لعموم السوريين، دون غلبة أو رغبة سلطوية لجهة سياسية أو دينية وادعاؤها الاستفراد بالحل السوري. وبالضرورة الانفتاح العام على كل السوريين وعدم الانغلاق على ذاتها، فتحقيق النتائج الملموسة في تحسين الواقع الاقتصادي والمعاشي لأبناء هذه المنطقة مرتبط بشكل عضوي بالتغيير السياسي السوري العام. فيما مواصلتها على مقاطعة الانتخابات التي يزمع النظام إجراءها الأيام القادمة، دلالة محورية على إفقادها شرعيته السياسية محلياً والمرقوبة جيداً عربياً ودولياً.

  • قدرة نخبتها السياسية على الإضاءة الواضحة على الأفكار التنويرية، وعدم افتراضها أنها البديل للسلطة القائمة حالياً أو مستقبلياً المولدة لمحفزات التنافس الذاتي السلبية على مواقع القيادة والمناصب. فيما دور النخبة المفترض هو الإبصار الواضح لمطبات القوقعة المحلية من شبهات المشاريع دون الوطنية كإدارة ذاتية معطوبة سياسياً واقتصادياً. والإضاءة العامة على طرق الحل السياسي السوري وتكثيف مفاعيله بالتواصل الفعال مع السوريين باختلاف توجهاتهم السياسية والمشروطة بالتوافق الوطني على آليات الحل السوري، وجدارة استحقاق التغيير السياسي. وإثبات أن النظام هو المعطل له، وليست قوى المعارضة والنخبة السورية المتنازعة بينياً.

  • قيم الحرية والكرامة والحق والعدالة لكل السوريين دون تمييز عرقي أو طائفي أو ثقافي، قيم ترتبط عضوياً مع المصلحة السورية العامة ومع الحل السياسي العام، وتحقيق الانتقال لدولة لكل السوريين.

امتحانات السويداء اليوم، امتحانات السهل الممتنع! فالمسألة السورية المعقدة في ذاتها يمكن تبسيطها وتسهيلها إذا ما تمكنت النخبة السورية من التوافق على التغيير السياسي قبل المناصب والمكاسب، وعلى أن رافعته الأجدر التظاهر السلمي الشعبي ونبذ العنف وعدم الانجرار للمعادلات الإقليمية في الصراع على مكاسبها المحضة! والعمل في الشأن العام السوري هو عمل بالأفكار التنويرية والقيم الحضارية التي تحاكي الصالح العام السوري، وأبداً هي ليست شؤوناً خاصة لبعض هواة القيادة في ادعاء كفاءاتهم وحسب.... فالجمع بين المصلحة العامة والأفكار بوصفها قيماً تحررية وخيرة هو الميزة الفارقة في السياسة كشأن عام، وتبدو هذه امتحاننا الأصعب!

 
 
 
 
كلمات مفتاحية