السوريون على مدار السنوات الأخيرة عاشوا حالة من التمزق الاجتماعي والسياسي والنفسي نتيجة العنف المنظم الذي مارسه النظام والتي لم تكتفِ بتدمير المباني والمؤسسات، بل امتدت إلى نسيج العلاقات الإنسانية والأفكار والمواقف بين الأفراد، وما نتج بعد ذلك من استباحة أراضي سوريا وفق بيادق مأمورة وبنادق مأجورة.
لعل من أخطر الآثار الجانبية لهذه الأوضاع شيوع عقلية التخوين والفكر الحدي. إذ أصبح الغالب في المجتمع السوري محاطاً بعالم من الشك والريبة تجاه الآخر، كل اختلاف في الرأي أو الموقف السياسي يُفسر على أنه خيانة.
المواقف المتشددة تغذيها مشاعر الغضب والإحباط والخوف، ما يجعل الحوار شبه مستحيل بين الأطراف المختلفة.
باتت العقلية الحدية، التي ترى العالم بالأبيض والأسود، دون قدرة على استيعاب طيف الألوان الرمادية، هي المسيطرة.
هذا الفكر الذي يُقسم الناس إلى "خونة"و"وطنيين" يحكم على الأفراد بناءً على مواقف لحظية أو سياسية آنية، متجاهلاً تعقيدات التجارب الإنسانية.
وفقاً لإحصائيات الأمم المتحدة، فإن أكثر من نصف سكان سوريا نازحون داخلياً أو لاجئون في الخارج، وهو ما خلق ضغوطاً اجتماعية هائلة. بين هؤلاء النازحين، يجد المرء أن العلاقات الاجتماعية قد تأثرت بشكل جوهري، حيث تنظر سلطات النظام السوري إلى العائدين من الخارج بعين الشك، ويتساءل البعض: هل هم حقاً وطنيون؟ أم تركوا الوطن في لحظة ضعف؟ بينما من هم في الخارج يتهمون من هم في الداخل بأنهم أدوات الأسد.
هذه العقلية الحدية تشوه الإدراك العام وتعمق الفجوة بين السوريين. في دراسة أجرتها منظمة "هيومن رايتس ووتش"، تبين أن نسبة كبيرة من السوريين المقيمين في مناطق النظام ينظرون إلى اللاجئين في الخارج كخونة لأنهم "تخلوا" عن الوطن في لحظة حرجة. في المقابل، ينظر بعض السوريين في الخارج إلى المقيمين في الداخل على أنهم "متواطئون" مع النظام. هذا الانقسام الحاد في الرؤية يعكس الفكر الحدي الذي لا يقبل سوى تفسير واحد لكل موقف.
الأمر يتجاوز السياسة إلى العلاقات الاجتماعية والاقتصادية. التجار الذين استمروا في العمل تحت الحصار الاقتصادي يُنظر إليهم في بعض الأحيان على أنهم "استفادوا من الأزمة"، في حين يُنظر إلى من اضطروا لترك أعمالهم والهجرة إلى الخارج على أنهم "خونة" لأنهم لم يصمدوا. هذه المواقف المتشددة تغذيها مشاعر الغضب والإحباط والخوف، ما يجعل الحوار شبه مستحيل بين الأطراف المختلفة.
وفقاً لدراسة صادرة عن "المركز السوري للإحصاء"، فإن 70% من السوريين يرون أن الثقة بين أفراد المجتمع قد تراجعت بشكل كبير خلال السنوات العشر الأخيرة. هذه النسبة تعكس بشكل واضح الأثر المدمر لعقلية التخوين التي انتشرت بشكل واسع. باتت المجتمعات السورية تُدار ليس بالقيم المشتركة أو الأهداف الموحدة، بل بالشبهات والتخوين، ما أدى إلى تفكك اجتماعي وظهور أشكال جديدة من الهويات والانتماءات التي تُبنى على أسس ضيقة.
هذا الفكر الحدي لم ينشأ من فراغ، بل تعززه عوامل عدة. الإعلام، على سبيل المثال، يلعب دوراً محورياً في تأجيج هذه العقلية. وسائل الإعلام الحكومية تروج لفكرة أن كل من يعارض النظام هو "خائن" و"عميل" للخارج.
في المقابل، تروج بعض النخب المعارضة لفكرة أن كل من لا يرفع السلاح أو يعارض الأسد ويقف ضد النظام هو "جبان" أو "متواطئ". هذا الخطاب الإعلامي المتطرف يغذي الفكر الحدي، ويُبعد المجتمع عن فكرة الوعي والتفاهم.
أما على المستوى النفسي، فإن عقلية التخوين والفكر الحدي تُعزز حالة الانقسام النفسي بين السوريين. الشخص الذي يعيش تحت وطأة هذا الفكر يجد نفسه مجبراً على اتخاذ موقف متشدد من كل شيء. ليس هناك مجال للتسامح أو التفهم. يُنظر إلى التسامح على أنه ضعف، وإلى التفهم على أنه تواطؤ. في دراسة صادرة عن "المركز السوري لحقوق الإنسان"، تبين أن 65% من السوريين يعانون من ضغوط نفسية ناتجة عن فقدان الثقة في الآخرين، سواء في الداخل أو في المهجر. هذه النسبة تعكس بشكل جلي عمق الأزمة النفسية التي يعيشها المجتمع.
في ظل هذه العقلية الحدية، يصبح من الصعب بناء مستقبل مشترك. فلا يمكن للمجتمع أن يتعافى إذا استمر في تقسيم أفراده إلى خونة ووطنيين. لا يمكن للمجتمع أن يتقدم إذا لم يستطع أفراده رؤية بعضهم البعض كجزء من نسيج واحد، بغض النظر عن الاختلافات السياسية أو المواقف الشخصية. ينبغي علينا أن نتجاوز هذه العقلية الضيقة التي ترى العالم بالأبيض والأسود، وندرك أن الحياة مليئة بالتعقيدات وأن الاختلاف لا يعني الخيانة. علينا أن نعيد بناء الثقة التي تحطمت، وأن نعمل على خلق مساحة للحوار والتفاهم.
إن الخروج من عقلية التخوين والفكر الحدي يتطلب جهوداً جماعية تبدأ من الأفراد وتنتهي بالمؤسسات.
لكن كيف يمكن تحقيق ذلك في ظل هذه الانقسامات الحادة؟
ربما يكون الحل في التربية والتعليم. وفقاً لدراسة أعدتها "يونيسف"، فإن 80% من الأطفال السوريين يعانون من نقص في الوصول إلى التعليم الجيد، ما يخلق جيلاً جديداً من السوريين قد يتبنى نفس العقلية الحادة التي أفرزتها الحرب. التعليم ليس مجرد وسيلة لاكتساب المعرفة، بل هو أداة لبناء قيم الحوار والتسامح. إذا أردنا أن نكسر دائرة التخوين، فعلينا أن نبدأ بتعليم أطفالنا أن العالم ليس مجرد صراع بين خونة ووطنيين، بل هو مكان يمكن فيه التعايش مع الاختلافات.
يجب أن ندرك أيضاً أن وسائل التواصل الاجتماعي تلعب دوراً كبيراً في تعزيز هذه العقلية. في دراسة صادرة عن "المركز العربي للأبحاث"، تبين أن 85% من السوريين يعتمدون على وسائل التواصل الاجتماعي كمصدر رئيسي للأخبار والمعلومات. هذه النسبة تعني أن الكثير من السوريين يتعرضون يومياً لخطاب التخوين والتشكيك عبر هذه المنصات. الحل يكمن في تعزيز الإعلام البديل الذي يقدم وجهات نظر متعددة ويساهم في خلق حوار بناء بدلاً من تأجيج الصراعات.
إن الخروج من عقلية التخوين والفكر الحدي يتطلب جهوداً جماعية تبدأ من الأفراد وتنتهي بالمؤسسات. علينا أن ندرك أن سوريا التي نريد أن نبنيها ليست سوريا مقسمة بين "خونة" و"وطنيين"، بل سوريا تستوعب الجميع، بغض النظر عن مواقفهم السياسية على قاعدة العدل وسيادة القانون.
سوريا التي نريد هي سوريا التي تحكم بالقانون وليس بالمزاج أو المأجورية والمأمورية..سوريا المتعالية على الاصطفاف المتسيد فيها القانون والدستور العادل.