كبشرٍ بلا ملامح واضحة مربوطين إلى نظام استدرجهم من دون مزاح إلى جحيم لا مثيل له، ورجمهم هناك مرّات عديدة ليتأكد من تمام هلاكهم، وبقائه هو، يبدو حال سوريّي الداخل اليوم، بينما كان عليهم لتجنّب هذا المصير، ومنذ البداية، أن يتبنوا مقولة "فولتير" الشهيرة: "أنا لا أتفق معك في الرأي، إلا أنني سأدافع، حتى الموت، عن حقك في إبداء رأيك". فلا معنى، فعلياً، لافتراض أنّ لديك الحق في قول ما تؤمن به، لأنّ ثوابت المافيا الأسدية ومكائـد ذوي النفوذ، تستطيع أن تجعل حتى من الصدق الذي تعيشه مع نفسك شيئاً لا يُحتمَل. والحقيقة فإنّ بقاء حكم الأسد يعني، حرفياً، أنه لا يزال الديكتاتور المتسربل بهراء الشعارات، الصامد ببث سموم الفرقة والسلالية والعنصرية، يدّعي لنفسه الحقّ بالعرش الملكي معتمداً على جيناته الوراثية وسلالته، فقط ليبقى الشعب الكرباج والظهر، وأيضاً السيف والمقصلة والرقبة.
ما زال نظام الأسد يعمل، وبخبثٍ غير مشهود، على تعميق الانفصام بين واقع السوريين وبين إرادتهم، بحيث تغدو مشاريع الإنقاذ الوطني أشبه بألاعيب الخيال
وهذا يعني ببساطة أنّ الأسد وطغْمَته، ليسوا خارج المساءلة إلاّ لأنهم، واقعياً، خارج المشروعية، لذا لهم الحقّ في اقتراف كلّ ما ليس مشروعاً، وبالتالي ما ليس أخلاقياً. ولا شكّ أنّ الحالة السورية معقدة على نحو استثنائي، ففي إطار منطق الانحلال التام للنسيج الاجتماعي السوري، لم تعد الحرب تفرق بين العسكري والمدني، وهو ما يعني أن "العقد الوطني" قد انفرط، وأن الدولة أصبحت عبئاً على مواطنيها لا حامياً لهم. والأسوأ من ذلك أنها تميل إلى صبّ جهود التدمير النفسي باتجاه المدنيين بعد تجريدهم من أبسط مقومات الحياة، لجعل أحلامهم مدافن عظام، وابتساماتهم مقابر جماعية، يشهدون يومياً أشكالاً عجيبة من جبايات القهر والفقر والذلّ، وطرقاً مبتكرة من الموت المجاني. تترجم هذه الإتاوة الثقيلة عبر مواجهات غير متكافئة عسيرة التفسير والتحليل، وفوق ذلك عسيرة الحل، تفتقر إلى أي رابطة منطقية أو تاريخية.
وحتى اللحظة ما زال نظام الأسد يعمل، وبخبثٍ غير مشهود، على تعميق الانفصام بين واقع السوريين وبين إرادتهم، بحيث تغدو مشاريع الإنقاذ الوطني أشبه بألاعيب الخيال، وعليه فليس غريباً أن تسود ثقافة النكسات، فردياً وفئوياً، في كلّ شأن مدني أو حضاري. حتى يمكن القول إن حكم الأسد ليس هو علة كلّ علة، وإنما هو نتيجة لأسوأ العلل مجتمعة. والدليل تحوّل مسؤولي البلاد إلى مقاولي حروب، ومثقفيها النجوم إلى جماعات مرتزقة، ومواطنيها إلى جيوش منهكة من اليائسين والمحبطين والمهمشين؛ لذا من البديهي أن تشيع ظاهرة غريبة سأسمّيها تجاوزاً بـ"استراتيجية العنف السام"، وهي دون أدنى شك، صناعة محلية، تغذت على بيئات السوريين الهامشية الفقيرة، الصالحة، عموماً، لتوليد النقمة والشعور بالغبن والاضطهاد، وهي بحدّ ذاتها مصطلح مُثقل بمعان كثيرة من القهر، الذي يُفسَّر بحيّز واسع من الظواهر المقنّعة والمدمرة.
وليس من المبالغة بشيء القول إنّ القهر السوري، لا بدّ، سيشهد أياماً أكثر وحشية وضراوة، نظراً لأن الطاغية لم يتردد في اعتبار الخراب العام وسيلة مشروعة لتحقيق الأهداف السياسية البحتة. ولا تقوم هذه الاستراتيجية الجهنمية على سفك الدم وجزّ الرقاب، ولا على إطلاق الرصاص والصواريخ أو رمي البراميل، إنما تعتمد على تسويق وتنميط مظاهر عامة، قد تبدو أخباراً عادية ومارقة للكثيرين، لكنها تفعل فعلها التدميري البطيء. مظاهر من قبيل: "فوز ابنة ماهر الأسد بالمرتبة الأولى والثانية معاً في بطولة محلية للفروسية، حيث ظهرت لها صور، من النوع المضحك المبكي، كانت قد وضعت إحدى قدميها على المركز الأول، والأخرى على المركز الثاني في إشارة إلى حصولها عليهما معاً، مقابل هذه الصورة تأتي كلمات الطفلة اللاجئة في إحدى الخيام بمخيم "أطمة" في ريف إدلب الشمالي، شهد الجميلة كجمال البلاد والمتعبة كتعبها، لتهزّ وجدان العالم وهي تتمنى في العام الجديد الحصول على خيمة، مجرد خيمة!...
لونا الشبل ترتدي في خطاب القسم الرئاسي فستاناً من غوتشي بقيمة 3000 دولار، وحزاماً يعادل ثمنه راتب سبعة موظفين لمدة شهر، في وقتٍ يدعو فيه وزير زراعة النظام السوري المواطنين لصنع الخبز في منازلهم بسبب عجز الحكومة عن توفيره... حفيدة رفعت الأسد تظهر في فيديو للترويج عن منتَجها الجديد للعناية بالبشرة، المستخرج من زيت الزيتون، في وقتٍ يفتقد الشعب السوري فيه حتى للزيت والزعتر... زوجة هنيبعل القذافي تدهس شرطيين في المزة، وعند قدوم الأجهزة الأمنية لاعتقالها تقوم بشتمهم، وتهديدهم بأشد الألفاظ، غير أنّ أحد المسؤولين السوريين يظهر فجأة ليأمر الشرطة بفتح الطريق لها بدعوى "أنها تخصه"...
بالتساوق مع ما سبق يسعنا التأكيد أنّ أبرز سمات هذه الاستراتيجية السامة هي "استثمار نظام الأسد في حقل الإرهاب الذي زرعه بيديه"
يردّ النظام على حالة الاحتقان والاستياء العام بعد رفع الدعم الحكومي عن مئات آلاف الأسر السورية المسحوقة، بمقاطع ترويجية لأعمال الجيش وتدريباته، في حين تستمر حملات "التمنين" من الحكومة الفاسدة، والإصرار المستمر على إدارة البلد كإقطاعية: المالك هو الحاكم المقدس، وأي شيء يقدم للرعايا هو مكرمة من آل الأسد... وليس آخر ظواهر العنف السامّ، بالطبع، الحفل الأسطوري الذي أقامه وزير داخلية نظام الأسد، محمد الرحمون، لابنته، كلف مئات آلاف الدولارات، بينما كان، وقبل ساعات، يشرح متأثراً آلية رفع الدعم عن ملايين السوريين. وليصبح المشهد السوري أكثر وضوحاً ترسل بثينة شعبان الملقبة بـ"سيّدة الصمود والتصدي" باقة ورد إلى حفل الزفاف مع (ابن أحد ضحايا النظام السوري)....إلخ".
بالتساوق مع ما سبق يسعنا التأكيد أنّ أبرز سمات هذه الاستراتيجية السامة هي "استثمار نظام الأسد في حقل الإرهاب الذي زرعه بيديه"، وليس أدلّ على هذا سوى قضية الطفل السوري، فواز القطيفان، المختطف بدرعا منذ أكثر من ثلاثة أشهر، والذي تصدّر مواقع التواصل الاجتماعي بعدما ظهر شبه عار وهو يتعرض للجلد، ولا يملك سوى الصراخ مستغيثاً: "مشان الله لا تضربوني".. وعليه ليس من المدهش أن تستثمر صحيفة الوطن التابعة للنظام السوري، وبصفاقة مستفزِّة، هذه الحادثة لتقارن بين استنفار العالم لقضية الطفل المغربي الذي مات في البئر، وبين صمت المجتمع الدولي والعربي عن جريمة تعذيب الطفل السوري، وعدم التفاته إليه بحسب تعبيرها.
تشبه هذه المفارقة تماماً زعاق النظام السوري المستمر بتحرير فلسطين المحتلة، وهو الذي لم يكن راغباً يوماً في إنقاذ شعبه البائس من الموت جوعاً وبرداً، في حين يجمع أهالي الداخل الفلسطيني المحتل أنفسهم، وضمن حملة "بيت بدل خيمة"، أكثر من مليون دولار خلال ساعات، لبناء بيوت للسوريين في مخيمات اللاجئين شمالي سوريا. ولم تنسَ الصحيفة المذكورة آنفاً، أن تتحدث عن الأطفال الذين تعرضوا للتعذيب في درعا مطلع الثورة السورية لتقول إنها روايات كاذبة، وإن عشرات التظاهرات تمّ ترتيبها مستندة إلى روايات تعذيب أطفال لا أساس لها... وبين أفراح أزلام الطاغية وآلام السوريين الذين يتجرعون سموم نظامٍ ورّطهم في بئرٍ لا قرار له، يُقال إنه وطن، يبدو أنّ النجاة أشبه بجواب زعيم تنظيم "القاعدة" في العراق أبو مصعب الزرقاوي، عندما سُئل: لماذا تقتلون الناس بالجملة وبينهم أبرياء؟ كان جوابه حينئذ: "إن كان القتيل بريئاً فقد عجلنا بذهابه إلى الجنة، وإن كان مذنباً فقد خلصنا المسلمين من شرّه!"..