(ماذا يعني أن يفشل المرء في وطنه وينجح في بلاد الآخرين؟). أتوجه بهذا السؤال إلى الوارث الذي لم يكن في حسبانه، سوى تنمية فساده عبر تعدد شركائه ووكلائه ومحازبيه وفي غمرة استبداده، حرم سوريا من طاقات شبابها المهنية والإبداعية ولم يوفر لهم الفرص للمساهمة في التنمية البشرية والتنمية الشاملة، التي لم تكن في حسبانه أصلا، بل ذهب يبتز كل موهبة، تساعده في تمكين سلطته من أعناق المواطنين وتوسع مجالات نهبه الأخطبوطي على طول البلاد وعرضها.
لقد بدأ نظامه في تشريد الطاقات السورية، من قبل أن يخرب بالعنف أسس الإقامة والاستقرار في بلد لم يعرف العنف إلا فيما توارثه ونفذه على خطا والده وما أهدره في تعسفه في إدارة الشأن العام وفي توزيع الوظائف والمهام للموالين غير المؤهلين إلا لتوفير فرص النهب له ولجيش من الداعمين المأجورين لدولته الأمنية التي أسس قواعدها الأب عملا بقوله المشهور: "أنا لن أتخلى عمن وقف معي في 16 تشرين الثاني" والمقصود عمن دعمه وأيده في انقلابه على زملائه في السلطة وتمويتهم في سجونه ببطء، بينما ترك الحبل على غاربه للقطط السمان من حوله.
السوريون وقلق الانتظار
إن ما ينتظره اللاجئون والنازحون وكل السوريين على حد سواء، هو التوافق على مستقبل الوطنية السورية، مسترشدين بما حققته الدساتير الحديثة، في بناء دولة تجمعهم على هوية واحدة وتلم شتاتهم من الخيام ودول اللجوء، لكي يبدؤوا في إعمار بلدهم فيغدو وطناً آمناً للاستقرار والتنمية وإحياء الوطنية السورية وتنميتها مرورا بتطبيق العدالة الانتقالية ومحاسبة كل من تلوّث بدماء المواطنين الأبرياء وأرزاقهم من أي جهة كان.
ويأتي في هذا السياق محاسبة من دمر الكيان السوري وجعل البلاد خرابا وأفرغها من الطاقة الشبابية المؤهلة، التي راحت تجدد شباب القوى العاملة في مجتمعات شيخية وارتقت بها في مختلف الفعاليات المهنية والعلمية، على مبدأ (مصائب قوم عند قوم فوائد) رغم ارتفاع أصوات اليمين العنصري ونكرانه لدور تلك الطاقات الوافدة من الحروب والخراب العام والسوري منها بشكل خاص.
التأهيل المهني والأخلاقي أهم ما يميز السوريين
انطلاقا من مستوى تأهيلهم وإبداعهم وأخلاقهم وبالنظر إلى التقارير الدورية الرسمية لبلدان اللجوء، يتمتع اللاجئون السوريون بسمعة طيبة، ميزتهم فأشادت بهم الدوائر الألمانية والسويدية (الدولتان الأكثر استيعابا
واستثمارا في طاقة السوريين) وأشارت إلى دورهم البارز في مختلف الفعاليات، وقد أكد مكتب الإحصاء الاتحادي الألماني عام 2023 أنه تم تجنيس أكثر من 200 ألف لاجئ معظمهم من السوريين، وأشار المكتب إلى حيازتهم كل مؤهلات التجنيس كإتقان اللغة، والإبداع والانضباط في العمل وقدرتهم على الاندماج في مجتمعهم الجديد.
كما ذكرت التقارير الرسمية، أن نسبة الجرائم بين السوريين لا تزيد على نسبتها بين الألمان أنفسهم. ولقد أشادت عشرات الفيديوهات الرسمية والشعبية في بلدان عديدة بتميزهم وسرعة انتقالهم من صفة لاجئ، يعيش على المساعدات إلى منتج، يدفع الضرائب ويسهم في التنمية.
لقد دخل السوريون أسواق المدن الألمانية الكبرى بالتجارة والخدمات والمأكل وغيره. ففي العاصمة برلين ومنذ دخول السوريين بكثافة طغى اسم (شارع العرب) على أوتستراد، يمتد نحو كيلومتر على الاسم الألماني (SONNE HELLE) الذي يعني بالألمانية (الشمس المضيئة) والذي ترتفع فوق محاله المتواصلة بكثافة الأسماء العربية ويقصده حتى الألمان، للتمتع بنكهة الطعام والحلويات السورية. وفي هذا الشارع تسمع مختلف اللهجات والأزياء الشعبية السورية على الأرصفة وفي المقاهي والمحال.
هذا عدا ما يشغله السوريون في مجال الخدمات الصحية كأطباء وممرضين وصيادلة، ففي الشارع ذاته، ستجد صيدلية مركزية سورية ضخمة للسوريين وتحت إدارتهم, وستستمع لنجاحات الطلاب السوريين في مختلف مراحل التعليم وتوزعهم في مختلف النشاطات الفنية والثقافية والإبداعية وغيرها.
ولقد تم في الدورة البرلمانية 2022 انتخاب شاب وفتاة سوريين إلى البوندستاغ (البرلمان الألماني) مما يشير إلى مستوى اندماجهم في المجتمع الألماني ونيلهم ثقة الناخبين.
لقد أشادت عشرات الفيديوهات الرسمية والشعبية في بلدان عديدة بتميز السوريين وسرعة انتقالهم من صفة لاجئ، يعيش على المساعدات إلى منتج، يدفع الضرائب ويسهم في التنمية.
ومن المتوقع أن يزداد عدد الممثلين السوريين مع ارتفاع عدد المجنسين ووزنهم النوعي في كل الأنشطة الحيوية ومنها رفدهم لقطاع الزراعة بكل الخضراوات الغريبة على الألمان والاتحاد الأوروبي بحدوده المفتوحة. وعبرهم تعرف الغرب على الملوخية والباذنجان والكوسا بأحجام صغيرة للمكدوس والمحشي والخيار بحجمه المعروف في بلدنا والقثاء وبات البقدونس مادة متوفرة كذلك، بعد أن كان مادة تزينية نادرة، تخلو منها معظم السوبرماركات وبات للفتوش والتبولة والفلافل جاذبية وسمعة طيبة. كما وفروا الألبان والأجبان السورية ولم يعد السوري في دول اللجوء، يشتهي مادة مما فقده بعد هجرته المريرة إلا ويجدها ميسورة في مختلف المدن الأوروبية.
وحيث لا يتسع المجال للإشارة إلى وضع السوريين المشابه في السويد والنمسا، يمكننا أن نشير إلى الموسيقا والفرق الأوركسترالية والكورالات السورية والمشتركة. وفي مجال التمثيل، في السينما والمسارح مع الأوروبيين.
كما أنعش السوريون أسواق القاهرة بمصر في التجارة والصناعة والمطاعم وانخرط الفنانون في صناعة السينما والمسلسلات والفن التشكيلي، ولم يعد مستغربا أن تسمع هذا التوصيف لنشاط السوريين الذين يزحمون أماكن اللجوء بأعمالهم وإبداعاتهم في مختلف المجالات.
بينما يلفت النظر في فرنسا حضور السوريين في مجال الموسيقا والتمثيل والفنون التشكيلية والآداب مقابل ضعف وجودهم في الفعاليات الاقتصادية المقتصرة على محال صغيرة، بينما يهيمن الأتراك على حيزات واسعة في هذه القطاعات الفرنسية.
أثبتت المرأة السورية كفاءة ومرونة وقدرات تعليمية ومهنية إبداعية وفي مجال الاندماج والخروج من التابوهات الضيقة.
العمق الحضاري للسوريين
إن الإشارة إلى تفاعل غالبية السوريين واندماجهم رجالا ونساء ومن مختلف الأعمار في المجتمعات التي لجؤوا إليها، يعود بنا إلى العمق الحضاري والاجتماعي الإنساني للشخصية السورية وأشمل هنا الرجل والمرأة على حد سواء، كما أشرك في هذا التقييم الإيجابي المرأة السورية القادمة من أوساط محافظة، والتي أثبتت كفاءة ومرونة وقدرات تعليمية ومهنية إبداعية وفي مجال الاندماج والخروج من التابوهات الضيقة، مقارنة بتلك النسبة الضئيلة من السوريات التي راحت تعبر عن أزمتها النفسية بالانكماش والتقوقع والعداء، والتي تفاقمت في الحرب المجرمة التي شنها نظام التوريث الأسدي والنشاط الأيديولوجي للجماعات السلفية، والتي شكل جزءٌ
منها نوعا من رد الفعل، على تخلي العالم عن السوريين وتركهم للمذابح والتهجير والدمار وكل أنواع التغييب وامتهان الكرامة.
أعتقد أن هذه الأجيال، ستعبر إلى هوية مأزومة بديلة عن هويتها ولغتها الأم، وستبقى هذه مسألة عالقة ومؤسفة، تنتظر همم السوريين ووحدة كلمتهم.
ماذا بعد؟
إن هذه النجاحات المرموقة للسوريين في دول اللجوء، لا يقلل من مدى تلهفهم للعودة ولا من مسؤوليتنا جميعا عن أجيال متلاحقة، مهددة بفقد هويتها ولغتها، بعد أن نمت وتثقفت بثقافات غريبة على بيئتها الطبيعية، وأعتقد أن هذه الأجيال، ستعبر إلى هوية مأزومة بديلة عن هويتها ولغتها الأم، وستبقى هذه مسألة عالقة ومؤسفة، تنتظر همم السوريين ووحدة كلمتهم، لعلهم يلفتون نظر العالم الغارق في صراعاته والمهدد بأخطار الحرب النووية، عسى أن يوليهم شيئاً من عنايته واهتمامه، ويساعد في إخراج القضية السورية من الضياع بين أقدام المتصارعين الدوليين العتاة.