"إنه أشبه بأن تستطيع الخفافيش الخروج من الظلام وتعيش في النور"! جملة أينشتاين الشهيرة حين أُخبر عن إمكانية تطبيق معادلته النسبية التي تربط بين الكتلة والطاقة، مخبريًا وتحرير الطاقة بالتجربة. ففي خضم اشتعال الحرب العالمية الثانية، قدم لأميركا عالم ألماني هارب من ملاحقة النازية، وكانت وجهته ألبرت أينشتاين. قدم لأينشتاين معلومات تفيد عن اقتراب الألمان من الوصول لإنتاج القنبلة الذرية (وقد كان سائدًا وقتها مصطلح الذرية قبل أن تعدل علميًا للنووية، حيث نواة الذرة هي مصدر الطاقة الهائلة وليست الذرة). كان رد أينشتاين أنه عمل مستحيل، فالنسبية علم نظري يستحيل تطبيقها مخبريًا والحصول على هذه الطاقة تجريبيًا!
حين وضع يده على تفاصيل التجارب العلمية التي يجريها العلماء الألمان في ذلك الشأن، بادر بإرسال رسالة للرئيس الأميركي حينها يحذره من الخطر الألماني إذا ما وصلوا لهكذا سلاح فتّاك وغير اعتيادي، ناصحًا بالعمل التجريبي على إنتاجه كسلاح ردع يلجم الألمان عن استخدامه. أينشتاين ذاته، ولا من بدؤوا العمل التجريبي عليه في مشروع مانهاتن، لم يكن يدركون ما يمكن أن يفعله هذا السلاح من دمار هائل. حين تم إلقاء قنبلة "الولد الصغير"، الاسم الذي أطلق على قنبلة هيرشويما الأولى، والثانية على ناكازاكي في اليابان، أدرك خطأه، ليعترف أنه الخطأ الوحيد الذي ارتكبه بحياته، ويقصد رسالته للرئيس الأميركي فرنلكين روزفلت وقتها.
طاقة هائلة لحظيًا وحرارة تعادل درجة حرارة الشمس تقتل البشر والشجر والحجر في موقع الضربة النووية، إضافة لمنطقة تفريغ الضغط الهائلة، والآثار السرطانية القاتلة لنواتج الانشطار النووي
نتيجة قنبلتي الحرب العالمية الثانية على المدينتين اليابانيتين تفوق الخيال، فقد استسلمت اليابان ومات ما يفوق 200 ألف في المدينتين بلحظة! واللحظة هنا تعني تمامًا الزمن الصفري، "رمشة عين"، وهو زمن الانفجار النووي المعروف بأجزاء من المايكرو الثانية. فكيف إذا ما علمنا أن واحد كغ من اليورانيوم المنشطر نوويًا سينتج طاقة لحظية تعادل حرق 25 ألف طن من الفحم، وهذه تحتاج لسنين في حرقها! طاقة هائلة لحظيًا وحرارة تعادل درجة حرارة الشمس تقتل البشر والشجر والحجر في موقع الضربة النووية، إضافة لمنطقة تفريغ الضغط الهائلة، والآثار السرطانية القاتلة لنواتج الانشطار النووي، التي قتلت في اليابان أمثال ما فعلته القنبلة بلحظتها! كما وامتداد عمر الأثر الإشعاعي وتخريبه الجيني لأجيال بعدها!
لم يقتصر السلاح النووي على حمله بالطائرات، ولا على الولايات المتحدة. إذ سرعان ما أنتج الاتحاد السوفييتي قنبلته النووية، ودخل العالم في سباق التسلح العالمي، خاصة في إنتاج الصواريخ الباليستية (بعيدة المدى) القادرة على حمل الرؤوس النووية. لتنتشر خريطة التوزع النووي إنتاجًا وسلاحًا على عدد من دول العالم، ويصل عدد الرؤوس النووية فيها إلى 15 ألف رأس. تأتي روسيا اليوم في مقدمة الدول عالميًا في عدد الرؤوس النووية، وتليها مباشرة أميركا، وخمس دول أخرى (الصين وبريطانيا وفرنسا والهند وباكستان) والتي دخلت بعد العام 1991، انهيار الاتحاد السوفييتي، في معاهدات حضر انتشار السلاح النووي، فيما بقيت كل من كوريا الشمالية وإسرائيل خارج هذه المعادلة، وإيران تحاول أن تلحق بركبهم اليوم.
مرعب هذا التوزع الذي يغطي المعمورة حال انفلاته عن السيطرة! والمرعب الأكثر هو تطور التقانات النووية فيه. حيث تطورت معه أسلحة الردع العالمية، والأسلحة التكتيكية التي تستخدم البلوتونيوم بدلًا من اليورانيوم، والتي تستخدم في نطاق محدود، تلك التي يكثر الحديث عنها اليوم في خضم الحرب الروسية على أوكرانيا والتهديد في استخدامها. هذا بالإضافة لأسلحة اليورانيوم المنضب والذي أفادت تقارير عالمية متعددة عن استخدامه في غزو العراق. ففيما قالت أميركا إنه سلاح حراري فتاك مضاد للدروع، أفادت التحقيقات والمسوح الإشعاعية عن زيادة مضاعفة في سرطانات الدم خاصة لدى الأطفال العراقيين، وارتفاع الحد الأدنى الإشعاعي المعروف بالطبيعي ليتجاوز حدود الخطر العالمي في المناطق التي تم استخدامه بها.
اليوم، وللمرة الثانية تأتي التصريحات الروسية وعبر أكثر من مسؤول لديها، بإمكانية استخدام الأسلحة النووية في أوكرانيا. ورغم أن الكثير من المتتبعين للمشهد هناك يرون عدم إمكانية روسيا في ذلك، وآخرون يرون مغامرة بوتين لن تتوقف عند حد. لكن التساؤل القديم الجديد: ما الذي تحققه السياسة من الحرب؟ وماذا ستجني روسيا من استخدام السلاح النووي؟
الحرب المولدة لأقسى درجات العنف لا يمكن تبريرها سياسيًا فكيف وقد تطورت أدواتها لتصبح قابلة لاستخدام السلاح النووي؟ فحسب حنة أرندت في كتابها "في العنف": "لم يعد من الممكن معها القول بأن ثمة غاية سياسية تتناسب مع قدرتها التدميرية النووية". فخطر السلاح النووي سيكون كارثيًا على الكون بمجمله! هذا الخطر العالمي هو ما تم السعي لتفاديه عالميًا وضرورة العمل على إنهاء الحرب الباردة، التي كانت الفضاء الواسع الذي أدى لإنتاج هذا العدد الهائل من الأسلحة والرؤوس النووية، والتي أدت لإعلان الحد من سباق التسلح النووي لكن تهديها الكارثي باقٍ لليوم. "فالحرب استمرار للسياسة بوسائل أخرى"، حسب كلاوزيفيتش، ويبدو هذا تاريخ لم تكتفِ البشرية منه بعد، لكن الحرب النووية ستنهي السياسة والحياة من أساسها، وستكون وسيلة للانتحار الجماعي على سطح الكوكب.
ليس صحيحًا أن التطور التقني النووي هو الذي قاد السياسة والوضع العالمي لهذه المواقع المتقدمة في مآزقها، بل العكس صحيح. فالسياسة هي التي توجه العلم لموقع مختلف عن غايته. السياسة المركوبة بحلم الهيمنة على العالم، أو على موقع متقدم فيه، حتى وإن فنيت مدن بأكملها، وهددت السلم العالمي برمته. فأمام خريطة توزع القوى النووية عالميًا، وفي سياق اتخاذ إجراءات الردع التلقائية تقنيًا، تلك التي تعني الرد المباشر على أي تهديد نووي قد تقدم عليه روسيا أو أية دولة أخرى، لن يتوقف عند حجم الدمار الذي قد يخلفه لحظتها، بل سيغير وجه الحياة على البسيطة نفسيًا واجتماعيًا وبالعمق جينيًا، هذا إن بقي بضع حياة عليها!
لقد أنهى السلاح النووي الحرب العالمية الثانية لعدم وجود رد عليه وقتها، أما اليوم فأي خطأ باستخدام السلاح النووي سوف يحدث "ما لم تره عين أو تسمع به أذن أو يخطر على قلب بشر"
ما لا يتخيله عقل هو هذا التوجه للتلويح باستخدام السلاح النووي، والجميع يدرك مدى أخطاره الفائقة عالميًا. وما لا يتخيله عقل كيف تعمل سلطات الغطرسة والقوة هذه؟ وهل هي دليل قوة أم ضعف؟ وأظنها لا هذه ولا تلك! بل دليل فاضح على العبث بمصائر البشر والحياة عامة، وعلى مستوى الأمراض النفسية المزمنة التي تعيشه السلطة الروسية اليوم، ومن يشابهها فيه. سلطة تعتمد الشمول في طياتها والتعسف في أدواتها الفكرية والتقنية بالضرورة، سلطة وجب تسمية منظّريها ومفكريها السياسيين، بأنبياء العنف والموت الجماعي، الذين يعتبرون أن الحرب هي الملجأ الأخير لحسم النزاعات الدولية.
لقد أنهى السلاح النووي الحرب العالمية الثانية لعدم وجود رد عليه وقتها، أما اليوم فأي خطأ باستخدام السلاح النووي سوف يحدث "ما لم تره عين أو تسمع به أذن أو يخطر على قلب بشر" ويعم أرجاءً واسعة من سطح المعمورة، لا تنفع بعده السياسة ولا طرق الهيمنة والغطرسة وسياسات البطش والقوة.