لا نعرف حتى الآن ابتسامة الجنرال التي يتكلم عنها مسلسل سوريّ قادم، للسيناريست والشاعر سامر رضوان، والذي أطلق على مسلسله اسم (ابتسم أيها الجنرال). لكننا رأينا على أرض الواقع الابتسامة الشهيرة لهذا الجنرال. لم تكن ابتسامة بل كانت قهقهة لكنها قهقهة بلهاء.
وهي لم تكن على نكتة أو طرفة أو موقف كوميديّ، وإلا كان الجميع من حقهم أن يتفاعلوا مع الكوميديا والنكتة بإطلاق ضحكة مجلجلة. أما أن تكون الضحكة (الأسديّة) في قلب الزلزال وفي قلب حلب، أما أن تكون الضحكة والجثث المتراكمة تحت أنقاض المباني التي قصفها سابقا فتضعضعت، كما تضعضعت أرواح ساكنيها، فتلك ضحكة ترقى لتكون جريمة ضد الإنسانية.
ولكن لماذا لا يضحك الجنرال؟ وهو منذ اندلاع المظاهرات ضده في آذار 2011 وبعد خطابه الأول فيما يسمى مجلس الشعب، كان يضحك ويبتسم وكأن شوارع سوريا يغمرها العطر وليس الدماء المسفوكة على يد قواته وأجهزته وشبّيحته.
لماذا لا يضحك الجنرال؟ فضحكته منسجمة مع انحطاطه الأخلاقي ووضاعة أدائه السياسي وتعامله المهين حتى مع (عشاقه).
هل نطلب من شبه رئيسٍ وشبه مسؤولٍ أن يبدر منه موقف إنسانيّ يتفق مع متطلبات الكارثة الفريدة في تاريخ المنطقة؟ وكثيرة هي المواقف التي لا ينساها السوريون تلك التي أطلق فيها ضحكاته وابتساماته البلهاء. وكلها مواقف كانت تقتضي على الأقل الصمت والوجوم، ومنها ما كان متعلقا بـ (كرامته) الشخصية حين أهانها الروس عدة مرات مشهودة.
ما ضحكة الأسد تلك إلا غريزة واستجابة طبيعية من منطلقه هو لذلك المصاب الجلل. لأنه أصلا غير مكترث بالبلد وسكانه وشرائحه وأنصاره
رؤساء البلدان المنكوبة ينزلون إلى مواقع الخراب والدمار متواضعين حتى بلباسهم، ليس تكلّفا ولا اختلاقا، فمن الطبيعي أن يمتلئ المسؤول السياسيّ بالحزن والغمّ حين يصاب بلده بزلزال مدوٍّ. فتلك استجابة طبيعية وغريزية يقدمها أي إنسان أمام هول الكارثة وحجم المصاب. وما ضحكة الأسد تلك إلا غريزة واستجابة طبيعية من منطلقه هو لذلك المصاب الجلل. لأنه أصلا غير مكترث بالبلد وسكانه وشرائحه وأنصاره. فهو هكذا يرى الأمور منذ البداية: لا مشكلة، لا شيء يحدث، وكله مجسّمات مشبوهة... أكان يعتقد أن الزلزال مجسّمٌ هو الآخر؟
لماذا لا يضحك الجنرال الحاكم، وهو مولع بالتكشير عن أنيابه الضحوك حتى حين تحترق الأراضي السورية بسبب الطبيعة أو بسبب جرائم شبيحته حين يتسببون في حرق الأحراش في السنوات الماضية، كان الجنرال ينزل إلى المتضررين من الحرائق راسما على وجهه ملامح الابتسامة.
المضحك في الأمر أن الجنرالات معروف عنهم التجهّم وليس الحبور! ربما باستثناء وزير الدفاع المزمن مصطفى طلاس فقد كان خارقا للعادة تلك، وكانت ضحكته حاضرة في أي ظرف حتى وهو يتحدث عن جرائم نظامه في حماة وحمص وتدمر وجسر الشغور وسائر البلاد. وإذا كان طلاس جنرالا عسكريا منذ البداية، فإن الأسد الحالي جنرالٌ بحكم المكانة التسلطية واللاشرعية التي يحتلها. غريب أمر هذا الرئيس (المدنيّ) القادم من مدينة الضباب لندن، لم تفعل فيه المدنيّة والحضارة شيئا يذكر. ربما كغيره من قياديّي البلاد البائسة الذين يتفاخرون بأنهم درسوا في أكاديميات الغرب وتسوقوا من مولاته وسهروا في أرقى أماكنه. لكنهم ظلوا في أعماقهم أبناء الانحطاط الحضاريّ المشبع بشهوة السلطة وحسّ امتلاك الآخرين والتفوق عليهم.
المضحك السوداويّ في الأمر أن رئيسا مدنيّا كالأسد الحاليّ تحت إمرته عشرات الآلاف من اللصوص والشّبيحة والمهرّبين والمزوّرين والحشاشين. أيستمدّ (مدنيّته) من أشخاصٍ طارئين على الحضارة والمدنية؟
بين صراخ العالقين تحت الركام، وضحكة (الرئيس المفدّى) يُختصر تاريخ (سوريا الأسد). فمن خلف أنقاض الزلزال وخراب المدن والقرى، تقف مصفوفة كاملة من الكوارث السورية التي لم يكن أصحابها يمتلكون حتى حق الصراخ والتعبير، ومن خلف ضحكة الجنرال تقف مصفوفة أخرى مقابلة من العسف والجبروت والإهانات المستمرة لأهل سوريا المنكوبين بنظامٍ لم تعلمه المدنية إلا لبس الأطقم الفاخرة وسكنى القصور. بين شحوب الضحايا وفزع الأطفال الطالعين من تحت الركام، وسرور السفاح الضّحوك، تكمن كارثتنا العميقة منذ أن استولى هؤلاء الطغاة على أقدارنا ومصائرنا. فنحن نعاني ونبكي ونتألم، وهم يضحكون ويرقصون ويسخرون..
أتذكر أمي الراحلة التي كانت تبكي على قطط المنزل إذا جاعت أو ماتت إحداها، في الوقت الذي كانت حرمت من الضحك والفرح بفضل الأسد الأب الذي أعدم اثنين من إخوتي في سجن تدمر في مطلع الثمانينيات، أتذكّرها لأنها من ضحايا زلزال الأسديّين الضاحكين. وبين خوف امرأة مسكينة على حيوان منزليّ إذا جاع أو ضاع عن البيت، وبكائها المستمرّ على فقدان أولادها، وبين أناقة الجنرالات وسفالة أخلاقهم وانحدارها، بين هذا وذاك تقبع مأساتنا بما فيها من انكسار ومهانة وضعفٍ وأحلامٍ مهدورة.
يطيح السفاح الضحوك بكل معايير الأخلاق الفطرية لدى وقوع الناس في لحظة تراجيدية قاهرة
يحدّثنا الأصدقاء المعتقلون في نظام الأسدين أن الجلاد أو المحقّق كانا يستعملان الضحك بصوت عال والسخرية من عذاب المعتقل وأنينه ودمه النازف، كسلاح نفسيّ لتحطيمه والإمعان في إذلاله واحتقار كرامته البشرية. كيف لا يضحكون ويسخرون وهم تلاميذ عصابة خرجت من دمامل التاريخ حين فقئت وسال صديدها علينا؟
يطيح السفاح الضحوك بكل معايير الأخلاق الفطرية لدى وقوع الناس في لحظة تراجيدية قاهرة، فبدلا من أن يرى فيه الآخرون مصدرا للتعاطف والمسؤولية يجدونه يشهد على الكارثة وكأنه في وادٍ والدنيا في وادٍ آخر. بل هي حقيقته فعلا وليس من باب (كأنه). فهو أصلا ورث فيما ورثه من مليارات الدولارات عن أبيه، بلدا بكامله مليئا بتشققات وانهدامات وتصدعات على كل مستوى، بلدا يعيش من عقود على حافة الهاوية فيما طغاته يقهقهون.
إذا كان مقتل عشرات آلاف الضحايا بالزلزال، وذلك الكمّ المرعب من الدمار، من علامات زلزال تركيا وشمالي سوريا، فإن ضحكة الأسد من علامات زلزالٍ أسديّ استبداديّ مخابراتيّ فظيع الشكل والمضمون ما زال السوريون يعانون منه ومن هزاته الارتدادية التي لن تنتهي أبدا إلا بسقوط هذا النظام ومحوه من مستقبل سوريا.