الرموز والهزائم العربية المتواصلة

2024.10.23 | 06:34 دمشق

آخر تحديث: 23.10.2024 | 06:34 دمشق

255555555555
+A
حجم الخط
-A

منذ نهاية الحرب العالمية الثانية انتهى، تقريبا، عصر الرموز والقادة في أوروبا والمجتمعات الغربية، نهاية هتلر زعيم النازية كانت إيذانا بنهاية عصر القادة والرموز السياسية والعسكرية في أوروبا والغرب، وسرعان ما امتد هذا نحو أوروبا الشرقية حيث انتهى عصر القادة الكبار مع موت ستالين في عام 1953، ليبدأ عصر الأقطاب الكبرى، القطب الغربي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية والقطب الشرقي بزعامة الاتحاد السوفييتي السابق، هذان المحوران الأساسيان في العالم ذلك الوقت استطاعا تنحية الرموز البشرية الكارزمية لصالح السياسات الكبرى التي تتحكم بسياسات العالم وتجذب إليها الدول الأقل قوة وتأثيرا أو الدول النامية والفقيرة والضعيفة.

لكن سرعان ما انتهى عصر المحاور والقطبين مع تفكيك الاتحاد السوفييتي ودخول بعض دوله السابقة في حروب أهلية مدمرة نتج عنها ظهور دول جديدة صغيرة وتغيير كبير في بنية الاتحاد الروسي الذي تخلص من النظام الاشتراكي لصالح نظام تائه بين الفساد وتفكك الدولة ما ساعد على ظهور مافيات مالية باتت المتحكمة بالاقتصاد الروسي وبالتالي بالسياسة الروسية المتخبطة من جراء فشل البريسترويكا والغلاسنوست.

في ذات الوقت كانت الليبرالية تتصاعد في المجتمع الغربي ويتصاعد نفوذ رأس المال إلى حد التوحش والتحكم بالسياسات الداخلية والخارجية للعالم الغربي.

سرعان ما انتقلت تجربة عبد الناصر إلى باقي الدول العربية: سوريا وليبيا والعراق والسودان واليمن، وكلها شهدت انقلابات عسكرية سميت بالثورات ووصل إلى الحكم فيها العسكر المتمثلون لأسوأ ما في التجربة الشيوعية يضعون نصب أعينهم الكاريزما الناصرية التي ظنوا أنها تجعلهم رموزا قومية مثله.

صار رأس المال هو الرمز ثم بدأ زمن العولمة الذي مهد الطريق للنيوليبرالية بوصفها فلسفة سياسية ومنظومة اقتصادية يجب أن تسود العالم كما اعتقد منظروها؛ والتي نتج عنها الثورة التقنية والخطوات المذهلة في التقدم العلمي واستخدام التكنولوجيا في كل مفصل من مفاصل الحياة.

وبات العالم اليوم محكوما بذهنية الشركة، ثمة شركاء قلة يملكون معظم رأس المال العالمي ويتحكمون بالسوق الاقتصادي والاجتماعي الدولي، وبالتالي هم قادرون علي التحكم بالسياسة الدولية عبر تحكمهم بالاقتصاد، مقابل شعوب فقيرة أو دول مفلسة أو في طريقها للإفلاس خاضعة تماما لشروط البنك الدولي على حساب شعوبها.

خلال تلك التحولات في العالم الغربي كانت الدول العربية، التي استلهمت التجارب الشيوعية في الحكم وتزعمها عسكريون وصلوا إلى سدة الحكم عبر انقلابات عسكرية أطلقوا عليها (ومازالوا) اسم ثورات شعبية، قد ابتليت بالاحتلال الإسرائيلي لفلسطين والمفروض برغبة المنتصرين في الحرب العالمية الثانية وبقرار دولي من الأمم المتحدة.

وكان نجم جمال عبد الناصر زعيم أول ثورة شعبية (انقلابية) في الوطن العربي يتصاعد ويتجوهر؛ كان لعبد الناصر كاريزما قوية وحضور طاغ ومنطوق مستمد من الشعب الذي كان يقف خلف جدار مصمت يفصله عن الملكية النخبوية التي انتهت بنكبة 1948 وفضيحة السلاح الفاسد.

عرف عبد الناصر كيف يغزو قلوب الملايين العربية، وعرف مفاصل الخطاب الذي يجب أن يتوجه به إليهم، خطاب عاطفي يشتغل على الروابط المشتركة: اللغة والمصير والتاريخ والدين. الكاريزما القوية لعبد الناصر جعلت منه زعيما وقائدا ورمزا استثنائيا قادرا، بمجرد ظهوره أو القائه خطابا بصوته الهادئ، أن ينسي تلك الملايين هزيمة نكراء وانكسارا كبيرا واحتلالا لمزيد من الأراضي العربية كما حدث في عام 1967. عبد الناصر كان هو الزعيم الأول الذي لم يستطع الكثير من العرب الخروج من رمزيته حتى اللحظة، أو لنقل لم يستطع العرب الشفاء من تأثيره المرضي الذي يجعلهم يقبلون بأي مستبد يستخدم نفس الشعارات التي كان يستخدمها عبد الناصر في خطبه العاطفية.

عرف عبد الناصر كيف يتلاعب "بسيكولوجيا الجماهير" العربية، فهمها جيدا واشتغل عليها جيدا، واشتغل على هويتيها المتصارعتين: الدين والقومية، بذكاء نادر مدعم بشخصية قيادية مسيطرة. كان قادرا على تعبئة الجماهير عبر استثارة عواطفها، وقادرا على استثمار تلك العواطف لصالح القضية المحورية التي اشتغل عليها طويلا، وتسخير نفسه زعيما عربيا وبطلا قوميا، ونجح بذلك فعلا، إذ ما يزال عبد الناصر بطلا قوميا رغم نكسة 1967، ورغم أنه وحركة الضباط الأحرار التي قادها بنجاح غير مسبوق، رسخا مفهوم الاستبداد السياسي الحقيقي في مصر، وأنشأا معتقلات سياسية مورس فيها كل أنواع التعذيب التي مارسها النازيون والستالينيون معا ضد معارضيهم. وسرعان ما انتقلت تجربة عبد الناصر إلى باقي الدول العربية: سوريا وليبيا والعراق والسودان واليمن، وكلها شهدت انقلابات عسكرية سميت بالثورات ووصل إلى الحكم فيها العسكر المتمثلون لأسوأ ما في التجربة الشيوعية يضعون نصب أعينهم الكاريزما الناصرية التي ظنوا أنها تجعلهم رموزا قومية مثله. لكن كل هؤلاء (الزعماء) لم يستطيعوا أن يتصدروا المشهد العربي كاملا، ظلوا زعماء في نظر شعوبهم فقط، زعماء نتيجة فرط القوة والاستبداد والقمع والفساد الذي حول دولهم ومجتمعاتهم إلى دول فاشلة تعاني شعوبها من التهميش والإقصاء والخوف مع مجازر هنا وهناك إثنية ومذهبية وعشائرية وقبلية.

بعد عبد الناصر تحولت فلسطين إلى الرمز الذي يجمع ملايين العرب، وهو ما جمع كثيرا جدا منهم حول جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية التي ظهرت بعد احتلال الجنوب اللبناني.

لم يستطع أحد من هؤلاء (الزعماء) العرب التحول إلى رمز قومي على طريقة عبد الناصر، ليس فقط لأن الزمن الآخذ بالتغيير خلخل قليلا مفهوم الرمز في الوعي الجمعي العربي، بل أيضا لأن ممارسات هؤلاء وارتكاباتهم ضد شعوبهم وضد الشعوب العربية المجاورة كانت فاضحة واستطاعت صناعة شروخ قوية في المجتمعات المحلية، كما أن الدول التي ترأسها هؤلاء لا تشبه المجتمع المصري الذي يكاد يكون متجانسا، فهذه الدول قائمة على تجمع مذاهب وإثنيات وعشائر وقبائل أعاقت تشكيل هويتها الوطنية الواحدة كتلك الموجودة في مصر، ولعب هؤلاء (الزعماء) على تلك الاختلافات وجذورها أكثر، صار (الزعيم) هو زعيم لفئات محددة

تتشارك معه العرق أو المذهب أو القبيلة وترى فيه حام لها، بينما رضوخ باقي الشعب لزعامته كان بحكم الخوف من مصير غامض. إضافة إلى أن عبد الناصر اشتغل على موضوع القضية الفلسطينية. أحد الثوابت التي بنى عليها رمزيته؛ بينما تاجر أشباهه من الزعماء العرب بالقضية واستخدموها ضد الفلسطينيين أنفسهم، ودعم بعضهم للقضية كان مجرد شعارات تلزم للزعامة وسرعان ما انفضح هذا الدعم لدي باقي العرب.

بعد عبد الناصر تحولت فلسطين إلى الرمز الذي يجمع ملايين العرب، وهو ما جمع كثيرا جدا منهم حول جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية التي ظهرت بعد احتلال الجنوب اللبناني، ومنظمة فتح وياسر عرفات الذي كان رمزا ليساريي العرب وعلمانييهم في الوقت الذي كانت فيه التيارات الدينية العربية المتصاعدة تهاجم ياسر عرفات ومنظمة فتح وجبهة المقاومة الوطنية المؤلفة من مجموعة أحزاب يسارية وعلمانية. وسرعان ما تم القضاء على جبهة المقاومة الوطنية بطلب مباشر من حافظ الأسد وتم استبدالها بحزب الله المنشق(الشيعي) عن حركة أمل، وظهرت معه مقاومة فلسطينية جديدة تابعة للإسلام السياسي هي حركة حماس وحليفتها حركة الجهاد الإسلامي. وبدأ شيئا فشيئا يلمع نجم حسن نصر الله زعيم حزب الله الذي تمكن من تحرير الجنوب في عام 2000؛ تحول حسن نصر الله إلى رمز عربي جديد استعادت معه الجماهير الباحثة دائما عن زعيم تلقي عليه أحمالها وأحلامها التحررية رمزية عبد الناصر لكن بلباس ديني وعمامة مذهبية وخطاب يستحضر الرمز الكربلائي وقدسية استشهاد الحسين. لم يقف العرب عند هذا الخطاب المذهبي ولم يقفوا عند تفصيلة أن هذا الحزب مدعوم مباشرة من إيران وأن زعيمه أقر، علنا، بخضوعه لولاية الفقيه الإيرانية، كان المهم لدى العرب أن حزب الله استطاع أن يمرغ أنف إسرائيل بالوحل ويجعلها تغادر الجنوب اللبناني كاملا. صور حسن نصر الله كانت تتصدر بيوت غالبية العرب، وخطاباته كانت كفيلة بأن تجعل الشوارع فارغة فالجميع متسمر أمام الشاشات بانتظار ما سيقوله السيد حسن؛ كان لحسن نصر الله قدسية لدى العرب على اختلاف طوائفهم، ورغم العداء العلني لحزب الله للعلمانية ورموزها ورغم الاغتيالات التي مارسها بحق مفكرين علمانيين ويساريين لكن حتى اليسار العربي كان مفتونا بحسن نصر الله وحزبه بنفس مقدار افتنانه بجمال عبد الناصر وحركة الضباط الأحرار. لم يكن لحركة حماس، المشابهة لحزب الله في الولاء والمرجعية، نفس الحضور في الوجدان العربي، ولم يستطع قادتها أن يتشبهوا بحسن نصر الله لدى العرب، لأسباب عديدة تتعلق بالكاريزما والقدرة الخطابية والقيادية التي نادرا ما يتمتع بها أحد من قادة الإخوان المسلمين رغم أن المذهب الذي تنتمي إليه حركة حماس هو مذهب الأكثرية العربية على عكس مذهب حزب الله، وهذا دليل مؤكد على أن الطائفية لدى العرب لم تكن أصيلة ولا متجذرة.

الشعوب المنتصرة والمجتمعات المنجزة لا تحتاج إلى رموز بشرية تقتدي بها، الإنجاز والتقدم والتطور والرفاهية محققة كلها والجميع موظفون لخدمة المجتمع.

جاء الربيع العربي وحمل معه متغيرات وتحطيم لكل الثوابت والبديهيات ومنها بديهية المقاومة التي تصدر لها حزب الله، إذ دخل الحزب بقوة في الصراع السوري الدائر بين النظام وفئات كثيرة من السوريين. دخل الحزب بكل قوته القتالية ليكون الذراع الضاربة للنظام السوري مستخدما خطابا طائفيا مقيتا انتبه له العرب لأول مرة، إذ لم يكن هذا الخطاب من أجل فلسطين وضد الصهاينة بل ضد شعب عربي مسلم (سني) في أغلبه، لترسيخ حكم طاغية لامانع لديه من تدمير بلد كاملا مستخدما أوسخ خطاب يساعده على بقائه في الحكم، وهو الخطاب المذهبي الذي اتهم فيه غالبية السوريين بالإرهاب مقابل فئة أخرى ظنت أنها في حربها ضد أبناء بلدها تحمي نفسها من الإبادة. سقط الرمز في الحرب السورية، واختفت تلك الهالة التي صنعها العرب له، وظهرت طائفيته وتبعيته لإيران التي لم تخف يوما رغبتها بالسيطرة واستعادة النفوذ الفارسي على بلاد العرب، ولم يعد محور المقاومة يحمل تلك الأيقونة التي كانت له قبل الربيع العربي، ذلك أن متغيرات كثيرة حدثت خلال العقد الذي تلا الربيع العربي تشكلت معها محاور جديدة فضلا عما كشفته الثورات من دجل الأنظمة التي تدعي المقاومة. وأسأل الآن ماذا لو لم يتدخل حزب الله في سوريا هل كانت مواقف العرب وردود أفعالهم تجاه اغتيال حسن نصر الله هي نفسها؟ أتساءل وأنا أعرف الإجابة جيدا، وأعرف أن مظاهرات غضب كانت ستعم الشارع العربي رغم قمع الأنظمة، ولم يكونوا ليكتفوا بالغضب الافتراضي.

يختلف الحال مع "استشهاد" يحيى السنوار رئيس المكتب السياسي لحركة حماس قليلا، فحركة حماس لم تحيد عن بوصلة فلسطين، لم تدخل في صراعات إقليمية خارج القضية الفلسطينية، والسنوار قتل في الحرب، لم يكن مختبئا تحت الأرض كحسن نصر الله؛ ورغم أن كثيرا جدا من العرب لا يتفقون مع خط حماس السياسي، ولا مع حركة السابع من أكتوبر وطوفان الأقصى الذي حملوه سبب الإجرام الصهيوني المنفلت من عقاله، لكن الخلاف الشديد حول حسن نصر الله بعد مقتله، والانقسام الطائفي المهول حول ذلك، جعل الرغبة في تمثل رمز نضالي ما تتجه نحو السنوار بعد موته بالطريقة التي مات عليها. حول الموت السنوار إلى رمز وتحولت العصا الخشبية التي كش بها آلة حربية ما بعد حداثية إلى رمز آخر سوف يبقى طويلا في الوجدان العربي الشعبي والأدبي.

الشعوب المنتصرة والمجتمعات المنجزة لا تحتاج إلى رموز بشرية تقتدي بها، الإنجاز والتقدم والتطور والرفاهية محققة كلها والجميع موظفون لخدمة المجتمع، لا زعيم في تلك الدول ولا أيقونة بشرية ولا رمز ملموسا؛ بينما ماتزال الشعوب ذات الأنظمة الفاشلة والتاريخ المليء بالهزائم تبحث عن رمز تتوسم فيه الخلاص والنجاة والإنقاذ. قد يكون هذا الرمز هو فكرة النضال نفسها، وقد يكون مغامرا يقدس الموت على الحياة، وقد يكون شخصية تاريخية ماتت منذ مئات السنين. تحتاج الشعوب المهزومة إلى رموز لأنها تعرف عجزها عن تحقيق أي انتصار ولو صغيرا، التمسك بالرمز هو تمسك بأمل بنصر ما ولو كان طفيفا وواه. في حالة السنوار الذي لم يكن محل اتفاق عربي سابقا، جعله استشهاده رمزا شبه عام، لن يدوم طويلا، أكاد أكون متأكدة من هذا، ذلك أن العرب قد تغيروا أيضا، تغيرت نظرتهم لمعنى الشهادة، صاروا أكثر رغبة بالحياة، ولم يعودوا يرون أن القضايا تستحق كل هذه التضحيات خصوصا بالأطفال الذين يدفعون أثمانا باهظة في حروب لا رأي لهم فيها بعد، ويأخذون كرهائن لأيديولوجيات تقدس الموت على الحياة وتعتبر حياة الجميع موظفة لخدمة هذه الأيديولوجيات.