الرمز الشعبي والبطل الشعبي.. الساموراي غير الأخير

2024.11.03 | 06:53 دمشق

55555552
+A
حجم الخط
-A

بالرغم من اختلاف كل من المعنى والحمولة الدلالية التي يمكن تأويلها وإدراكها من مفهومي الرمز الشعبي والبطل الشعبي، وتأثيرهما في الشعوب عمومًا، فإن اشتراكهما في عامل السردية الشعبية الشفاهية أو المكتوبة يحيلنا إلى تقاطع دلالي حفلت به ذاكرة الشعوب ومثّل متنا لسردياتها.

فقد شكّلت تلك الرمزية ثيمة لصيقة بما لم يكن التعبير عنه يسيرًا بوسائل شائعة ودارجة، أي مفهوم المقاومة وسيرة رد الفعل من عامة مسحوقة أو مفتقرة لأدوات بث همومها وأحلامها، قبالة سلطات لا ترمي لها بالاً. وقد مثّل الرمز الشعبي صفحة تاريخ خاص للشعوب وفئاتها المقهورة. وما لبثت دول ناشئة أن استعادت تمثله عبر اعتبار بعضهم رموزًا وطنية أو قومية؛ في حين بقي قسم منهم طي الروايات المتوارثة لفئات أو طبقات أو شعوب لم تكتب لها الأقدار أن تؤرخ لمجدها، فبقوا أدراج أحلامها المتوارثة. يناقش هذا المقال ما اجترحه الرمز الشعبي والبطل الشعبي من أثر خارج أنماطه في المجال القومي الرسمي للدول التي نهضت باسم زعمائها كجورج واشنطن أو نابليون بونابرت أو لينين، حيث يخرج هؤلاء من نطاق الشعبية التي تقتضي التداول غير الرسمي.

من أهم ميزات الرمز أو البطل الشعبي، رغم اختلافهما، هي حمله لمعانٍ كالصبر والأخلاق والقيم الرفيعة والشجاعة.

يظهر البطل الشعبي في التاريخ كمنبر أو منارة لسيرة شعبية تحمل دلالات قيمية ومعاني البطولة والتفرد، خارج سلطة التاريخ الرسمي للدول وهيئاتها الحاكمة ومنابرها. لكن شعوبًا ودولاً جمعت بين الاعتبار الشعبي والرسمي، مثل تلك التي حُكِمت بالاستعمار إبان مقاومتها له، حيث تحول البطل الشعبي إلى رمز رسمي وتاريخي لمرحلة الاستقلال فيما بعد، وأصبح رمزًا رسميًا لاعتباره تمحور حول مفاصلة واضحة بين الداخل الشعبي الوطني والخارج المستعمر. بعد الاستقلال، وفشل الدولة في التعبير عن أبنائها، حدثت نقلة مهمة في البيئة العربية مثّلت انفصالاً حادًا بين دولة السلطة من جهة والشعوب من جهة أخرى، مما جعل الرمز الشعبي الحديث منعزلاً ومضمَرًا، خصوصًا بعد موجة العولمة وسيادة مفهوم القرية العالمية في السياسة، وظهور التصنيف الدولي للإرهاب الذي استفادت منه سلطات الحكم في بلداننا. من أهم ميزات الرمز أو البطل الشعبي، رغم اختلافهما، هي حمله لمعانٍ كالصبر والأخلاق والقيم الرفيعة والشجاعة.

استعادت الشعوب تداول الرموز القديمة دون خوف من السلطة باعتباره رمزًا قديمًا، وأحجمت عن تبني أي رمز جديد باعتباره مطلوبًا أو إرهابيًا وفق التوجه الحديث للسياسات الدولية.

تاريخيًا، في مراحل الأزمات، لربما كانت الفجوة بين شعب أو فئة منه لا تدرك قانون الدولة، فترفضه ضمنيًا، وقد تعارضه عبر تنفيس يظهر في التهكم أو التمرد الذي سرعان ما ينطفئ وينفرط عقده، ولا يبقى سوى النزر اليسير من أفراد يصبح البعض منهم رمزًا شعبيًا تتداوله المقولات والحكايات والكتب. وتصبح بعض الفنون والروايات والسرد مساحة تأريخ لهؤلاء، مع شيء من التخييل والتعظيم، متداولة في التاريخ الشفاهي والملاحم الشعبية، لكونها تحمل هماً جمعيًا وقيمًا بات العامة يشعرون بزوالها أو ندرتها.

وفي مقارنة منهجية بسيطة بين الحمولة الرمزية التي يعبر عنها البطل الشعبي والرمز الشعبي عربيًا ونظيره الغربي في الماضي والحاضر، نجد أنه في تاريخ الغرب قديمًا يبرز رمزًا شعبيًا مثل سبارتاكوس في عهد الرومان، إلى أن حضرت بعدها شخصيات أكثر عمومية مثل "روبن هود، سوبرمان، وباتمان"، ثم تحورت في القرون الثلاثة الفائتة من تمثيل قيم إنسانية عامة كالخير ومكافحة الظلم، إلى قيم فردية تعبر عن نتاج وإبداع فردي، فذهبت إلى نمط سلعي تسويقي مثل "ميكي ماوس وتوم وجيري" التي كانت توجهًا رسميًا لرأسمالية متوحشة، تهدف إلى تطويع مخيلة العالم نحو التركيز على ثيمة التفوق وليس الحق، واعتبارها قيمة بديلة دفعًا بالحداثة إلى أبعد ما يمكن، وفقًا لتعبير المفكر عبد الوهاب المسيري.

الغرب تحول إلى نمط التعبير عن قيم فردانية من علم وإبداع، في حين بقي العربي والمشرقي عمومًا معبرًا عن ما تحتاجه تلك الشعوب في مستوى الدولة والمواطنة.

عربيًا، نجد في العصر الجاهلي أمير الصعاليك عروة بن الورد الذي خرج على ناموس القبيلة، وسيف بن ذي يزن، وأبو زيد الهلالي، مما نقلته الحكايات والروايات الشعبية ومثّل قيمًا اجتماعية وأخلاقية عامة تتضمن التمرد ومقارعة الظلم.

أما في مرحلة الإسلام، فقد غاب الرمز الشعبي حتى بدء نشوء المذاهب واتخاذها بُعدًا سياسيًا، فصار لكل طائفة رموزها وأبطالها. قابل ذلك تأويل مستحدث لدى الصوفية استشرى في مرحلة الخلافة العثمانية باعتبار شيوخها رموزًا وأولياء صالحين يتسمون بشيء من القداسة، وبقيت مقدسة حتى في مرحلة تهافتها في التملق لسلطات الأمر الواقع، واستمرارا لنهجها في التنفع من السلطنة العثمانية إبان تقويتها لدرء تغلغل الاتجاه الصفوي من إيران.

حديثًا، كانت حصة العرب من الرمز الشعبي والقائد الرمزي تدور حول مقارعة المستعمر، فكان عمر المختار الذي تتناقل الأجيال مقولته للمستعمر "سيكون عليكم أن تحاربوا الجيل القادم والأجيال التي تليه، أما أنا فستكون حياتي أطول من حياة شانقي"، ويوسف العظمة، وناجي العلي الذي تفرد في خلق شخصية قابلة للتمثل في كل وقت وحين وهي حنظلة لترمز للمقاوم الفلسطيني، وخطّاب الشيشان، وقناص بغداد، وفي سوريا اندلعت الثورة مدفوعة بأيقونة ثورية طفولية هي حنجرة حمزة الخطيب المقطوعة وصولًا إلى عبد الباسط الساروت. كما تفجر في فلسطين أبطال مقاومة ورموز مدنية من ذوي الشهداء، إلى آخر القادة الذين ضحوا بأنفسهم مثل يحيى السنوار.

يتضح مما سبق أن الغرب تحول إلى نمط التعبير عن قيم فردانية من علم وإبداع، في حين بقي العربي والمشرقي عمومًا معبرًا عن ما تحتاجه تلك الشعوب في مستوى الدولة والمواطنة. إن الشعوب العربية تعيش الآن لحظة افتراق مفصلية عن أنظمتها، وهي لحظة فارقة لم تمر بها شعوب سابقة إلا على مستوى دولة يقودها قيصر أو دكتاتور، مع نهج تعويم وتقييد كالتي نعيشها الآن. ينظر المثقفون إلى دول حديثة ومتحضرة بقوانينها ومؤسساتها، وكأن الدولة المنشودة باتت على مرمى حجر، متناسين أن عالماً متكاملاً يسعى لغير ذلك ويكرسه. والمضحك المبكي في الوضع الحديث هذا، هو وجود ثقل دولي عالمي غالبًا ما سوق نفسه كعالم من الحقوق والقيم، وهو الذي يتحالف مع أنظمة حكم دكتاتورية ويدعمها، مع ضرورة الانتباه لاشتغال دولي في التدخل حتى في المجال المحلي لدولة ما، ضد قيام رمز شعبي في شرقنا المبتلى.

يتناسى العالم بقواه الشرسة والناعمة وعملائه ومنبطحيه أن للشعوب ذاكرة عصية على التدجين، وأن الزبد وإن بدا كثيرًا ومتعاليًا يسقطه حجر بيد حنظلة أو عصا بيد السنوار.

إن هذا التفارق الصريح بين شعوب تحلم وأنظمة تحكم بيد من فولاذ وقفاز حرير، لابد أن ينتج ثقافة وذاكرة وقيمًا تتعالى على الفوات أو التمييع المشتغل على تعميمه ونشره. يشمل مفهوم الشعوب المفارقة هنا الشطر الحالم بالحرية والدولة، كما يشمل الشطر المدجن والذي قد يحارب الآخر الحالم كذلك. وقد غدت الثقافة، كإطار عام جامع يسمو على التفاهات والأهواء، مثقلة بالتشتت والتكاذب والتخادم. وهنا تنبجس صور من الماضي التليد، وضاءة ناصعة، وقد تصبح مقدسة كرد فعل على حالة الطعن فيما ادخرته الشعوب الجريحة من قيم، قبالة هذا الانتهاك والتحييد وسفر الإزاحة المتخفي بمظاهر حضارية متعددة. تظهر آثار ضجيج محلي لتشويه صورة الرمز الحي أو البطل الحي لئلا يكون رمزًا شعبيًا، وتنطلق صيحات مشبوهة في بعض المنابر للطعن في رموز الأمة القديمة، وتحاول النيل من رموزها الحية بحجة خسائر الدم، إلى درجة يظن بها المرء أنها لو عايشت الشيخ عمر المختار أو يوسف العظمة لحاكمتهما بتهمة الحفاظ على الدم، قبالة عدو عرف الحل واستباح دماء الأبرياء ليعطي تبريرًا لأولئك في التخذيل والتوهين. ويتناسى العالم بقواه الشرسة والناعمة وعملائه ومنبطحيه أن للشعوب ذاكرة عصية على التدجين، وأن الزبد وإن بدا كثيرًا ومتعاليًا يسقطه حجر بيد حنظلة أو عصا بيد السنوار، سيحملها أطفال غزة بعد حين؛ ليثبتوا أن العين النيرة تقابل مخرز الجلاد.