عندما يستحضر السوريون ذكريات عام 2011، تعود إلى الأذهان تلك اللحظات المفعمة بالأمل والتفاؤل، حين كان الشبان والفتيات يملؤون الساحات والشوارع بأصواتهم المطالبة بالحرية والكرامة.
كانت أعينهم تلمع بالأمل بغدٍ أفضل، وكانت قلوبهم مليئة بالإصرار على إحداث تغيير حقيقي ينهي عقودًا من القمع والاستبداد. آنذاك، كان الحلم بالديمقراطية يتجاوز كونه مجرد مطلب سياسي؛ كان تعبيرًا عن تطلعات جيل كامل نحو حياة مليئة بالعدالة، تسودها حرية التعبير والمشاركة في صنع القرار. لكن، ما كان يومًا حلماً مشتركًا لجميع السوريين تحول بسرعة إلى كابوس من العنف والقمع.
الانتفاضة الشعبية لم تكن سوى بداية لرحلة شاقة، كان السوريون يأملون أن تفضي إلى بناء نظام ديمقراطي يضمن الحقوق ويحترم الحريات. لكن الرد على هذه المطالب جاء قاسيًا وعنيفًا. بدلاً من الحوار والاستماع، اختار النظام الحاكم القمع والتعذيب، وتحولت السجون إلى أماكن تعج بآلاف المعتقلين والمختفين قسريًا. هؤلاء المعتقلون ليسوا أرقامًا أو حالات فردية؛ إنهم قصص بشرية تحمل في طياتها آمالًا وأحلامًا لم تتحقق، وأرواحًا تحلم بيومٍ تعود فيه للحرية. كل معتقل يقبع في الظلام هو تذكير حيّ بثمن النضال من أجل الديمقراطية.
الديمقراطية ليست مجرد آلية سياسية تُنظم بها الانتخابات، بل هي منظومة قيمية ترتكز على احترام الإنسان وتمثيل الشعب وجميع فئاته في الحكم والقانون، بالإضافة إلى تعزيز قيم العدالة والمساواة.
في سوريا، تظل العدالة الغائبة أحد أبرز العقبات أمام تحقيق تحول ديمقراطي حقيقي. فكيف يمكن الحديث عن الديمقراطية في ظل استمرار الاعتقالات التعسفية والتعذيب؟ كيف يمكن للشعب السوري أن يثق بمستقبل أفضل دون أن يُحاسب مرتكبو الجرائم، ودون أن يتحقق الإنصاف للضحايا؟ إن غياب العدالة يجعل من أي حديث عن الديمقراطية حديثًا ناقصًا، لا يُعالج جذور المشكلة.
يجب أن يكون هناك تحقيقات شفافة ومستقلة تضمن محاسبة المسؤولين عن الجرائم ضد الإنسانية.
لكي نضع سوريا على مسار الديمقراطية، يجب أن نبدأ أولًا بتحقيق العدالة. العدالة الانتقالية تُعتبر إحدى الأدوات الأساسية للتعامل مع ماضي الانتهاكات وضمان عدم تكرارها. يجب أن تُفتح ملفات المعتقلين والمختفين، ويجب أن يكون هناك تحقيقات شفافة ومستقلة تضمن محاسبة المسؤولين عن الجرائم ضد الإنسانية. هذا المسار لا يُعيد للضحايا حقوقهم فحسب، بل يُعزز من الثقة بين الدولة والمجتمع، ويُرسخ أسس السلام الدائم. العدالة ليست فقط مطلبًا قانونيًا؛ إنها أيضًا ضرورة إنسانية تداوي جروح الأسر التي فقدت أحباءها، وتعيد للمجتمع تماسكه وقوته.
وفي هذا السياق، تأتي أهمية اليوم الدولي للديمقراطية، الذي يُذكر العالم بضرورة التزام الدول بضمان حقوق شعوبها وإشراكهم في العملية السياسية. يتجدد هذا العام التركيز على "تمكين الجيل المقبل"، وهو توجه يتناغم مع ما تحتاجه سوريا اليوم. الشباب السوري الذين عاشوا الحرب والدمار، والذين واجهوا القمع والتهميش، هم الأمل في إعادة بناء وطنهم. تمكينهم من المشاركة السياسية، وتوفير الفرص لهم للتعبير عن آرائهم، هو حجر الزاوية في أي تحول ديمقراطي مستقبلي. هؤلاء الشباب ليسوا فقط ضحايا، بل هم أيضًا قادة المستقبل، ومشاركتهم الفعالة هي الضمانة لبناء مجتمع يقوم على أسس العدالة والمساواة.
إن تعزيز الثقافة القانونية، ونشر الوعي بحقوق الإنسان، هما خطوتان أساسيتان لتشكيل جيل قادر على قيادة التحول الديمقراطي والمشاركة في بناء مستقبل جديد.
لذلك، يجب أن تركز جهود المجتمع الدولي والأمم المتحدة على دعم الشباب السوري، وتوفير التعليم والتدريب اللازمين لتعزيز وعيهم بحقوقهم ومسؤولياتهم.
كما يجب دعم المبادرات المحلية التي تسعى إلى توثيق الانتهاكات وتوفير الدعم القانوني والنفسي للضحايا. إن تعزيز الثقافة القانونية، ونشر الوعي بحقوق الإنسان، هما خطوتان أساسيتان لتشكيل جيل قادر على قيادة التحول الديمقراطي والمشاركة في بناء مستقبل جديد.
المجتمع الدولي مطالب اليوم أكثر من أي وقت مضى بتحمل مسؤولياته تجاه الشعب السوري. يجب أن يكون هناك ضغط دولي متواصل على النظام للإفراج عن المعتقلين السياسيين، والكشف عن مصير المختفين قسريًا. يجب دعم مبادرات العدالة الانتقالية، وتوفير الموارد اللازمة لضمان تحقيق العدالة. إن الطريق إلى الديمقراطية ليس سهلًا، لكنه الطريق الوحيد لتحقيق سلام دائم واستقرار حقيقي في سوريا.
يبقى الحلم بالديمقراطية حيًا في قلوب السوريين، رغم كل الألم والمعاناة. إنه حلم الأمهات اللواتي ينتظرن عودة أبنائهن، وحلم الشباب الذين يرون في المستقبل أملًا في حياة كريمة. إن تحقيق هذا الحلم يتطلب التزامًا جماعيًا بالعدالة والحرية، ورؤية مشتركة لبناء وطن يتسع للجميع، ويحترم حقوق
كل فرد. الديمقراطية ليست هدفًا بعيد المنال، بل هي عملية مستمرة تبدأ بتحقيق العدالة، وتستمر بإشراك الجميع في بناء مستقبل يليق بتضحيات السوريين وتطلعاتهم.