من النادر جدا أن تجد مقالا أو دراسة أو بحثا يتعلق بالديمقراطية ولا يذكر باختصار أو بإسهاب أصل وتعريف كلمة الديمقراطية، والمأخوذة من الأصل اليوناني "demos"، (الشعب)، وتكملتها "kratos" والتي تعني السلطة؛ وهذا يعني أن الديمقراطية هي حكم الشعب أو سلطة الشعب!
وكما يقول منظرو الديمقراطية فإن العملية الديمقراطية التي تتمّ من خلال الانتخابات تعني حكم الشعب بموجب وكالة (عبر عقد الانتخاب بين الناخِب والمنْتَخِب) ووفقا لإرادة الناخبين وعملا لتحقيق طموحاتهم!
ويقال بأن الديمقراطية تتضمن جملة من الثمار المهمة للإنسان والدولة معا، ومنها الحرية الفردية والجماعية في الاختيار والتقرير السياسي والاجتماعي والفكري والثقافي، وكذلك المساواة الواضحة بين الناس من دون النظر إلى قربهم أو بعدهم من صاحب القرار وغيرها من الثمار الناضجة الخادمة للناخِب والمنتَخِب والوطن!
ونحن في العراق كنا نقرأ عن الديمقراطية كشكل من أشكال الحكم في العالم، ولكننا لم نرَ ممارسة ديمقراطية حقيقية على الأقل في القرون الخمسة أو الستة الأخيرة!
وبعد الغزو الأميركي للعراق وسحق الدولة، بدأ الحديث بإسهاب قاتل عن الديمقراطية في كل دقيقة تقريبا، ومن منصات فوق تلال الموتى والضحايا والبنايات كرر ساسة واشنطن (ومن معهم من الساسة العراقيين) الحديث عن عهد جديد في العراق مليء بالديمقراطية وخال من الدكتاتورية!
وقد أكد الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن بداية آذار/ مارس 2004 ثقته بالعملية الديمقراطية في العراق، وأن" العراقيين يحققون تقدما كبيرا، وأن أعضاء مجلس الحكم يجرون نقاشا حرّا وحماسيا لإعداد إطار جديد لحكم البلاد، وأن هذا القانون الإداري الانتقالي سيحمي حقوق جميع العراقيين وسيدفع البلاد نحو مستقبل ديمقراطي"!
ومن ويومها ونحن نترقب رؤية هذه الديمقراطية التي تحدثوا عنها في العراق، ولكن، ورغم البحث الدقيق، ومحاولات إقناع الفكر بها، إلا أننا، وحتى الساعة، لم نلمس وجودها في الواقع السياسي بوضوح ورؤية ناصعة، وبقينا نسمع بها بكثرة مملة، بل، ولكن الحقيقة أننا أصبحنا أمام دكتاتوريات متداخلة ومتنوعة ولكنها دكتاتوريات بمسميات ديمقراطية!
وقد أقحمت الديمقراطية بالباب الأول من الدستور العراقي الأخير الذي كتبت زمن الاحتلال الأميركي (2005)، وذكرت ضمن المبادئ الأساسية، وبينت المادة (1) أن "جمهورية العراق دولة اتحادية واحدة مستقلة ذات سيادة كاملة، نظام الحكم فيها جمهوري نيابي (برلماني) ديمقراطي. وهذا الدستور ضامن لوحدة العراق".
قبل أيام (15 أيلول/ سبتمبر) احتفل العالم باليوم العالمي للديمقراطية، وقد احتل العراق المرتبة 116 من بين 167 دولة في مؤشر تطبيق الديمقراطية!
وعادت المادة (2) أولا التأكيد على مبدأ مهم يتمثل بعدم السماح "بسَنّ أي قانون يتعارض مع مبادئ الديمقراطية".
وكررت المادة (6) من الدستور القول الحاسم بتأكيدها على التداول السلمي للسلطة "عبر الوسائل الديمقراطية المنصوص عليها في هذا الدستور"!
وقبل أيام (15 أيلول/ سبتمبر) احتفل العالم باليوم العالمي للديمقراطية، وقد احتل العراق المرتبة 116 من بين 167 دولة في مؤشر تطبيق الديمقراطية!
وهذا يعني أن العراق فيه بعض الديمقراطية بموجب هذا التقييم، وما ذكرت من مواد دستورية، ولكن هل فعلا هنالك ديمقراطية في العراق اليوم؟
لقد انطلقت التجارب الديمقراطية في العراق، ومنذ بدايتها، بشكل هشّ، ولم تقم على أرضية متينة، وبدليل أننا لاحظنا كيف أنه، وبعد أن استقرت رئاسة الحكومة لنوري المالكي لولايتين متتاليتين عامي 2006 و 2014، وخسر في المرحلة الثالثة، قال كلمته المشهورة بداية العام 2013 (هو يكدر (يقدر) واحد يأخذها حتى ننطيها (نعطيها) بعد)، وهذا التصريح يؤكد زيف الديمقراطية، ولكن الضغوطات الداخلية والخارجية أجبرت المالكي (الخاسر) على التنحي لرفيقه في حزب الدعوة الإسلامية حيدر العبادي!
وقبلها لاحظنا كيف أن المالكي استخدم المحكمة الاتحادية في انتخابات العام 2010 ليحصل على المركز الأول على الرغم من فوز (القائمة العراقية) بزعامة إياد علاوي بالمركز الأول، وهذه أدلة ثابتة تؤكد أن الديمقراطية مجرد شعارات رفعت لخداع الجماهير!
واستمر الصراع السياسي بين القوى الكبرى منذ العام 2005 وحتى اليوم، ولكنه برز في السنوات الأربع الأخيرة بشكل واضح وكبير بسبب الاختلاف على تقسيم المغانم، واليوم نتابع أبرز ثمار ذلك الصراع عبر الانغلاق السياسي المستمر منذ الانتخابات البرلمانية في العاشر من تشرين الأول/ أكتوبر 2021 وحتى الساعة، وقد أخفقت كل المحاولات لترميم الخلافات السياسية، ولم نجد، حتى اللحظة، أي اتفاق بين الكيانات الكبيرة حول حسم شخصية رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء!
لقد أثبتت التجارب السابقة بعد العام 2005 (التجربة الانتخابية الأولى) أن العراقيين غير مقتنعين بالديمقراطية لأنها ليست من رحم المعاناة، ومع ذلك فإن اللعبة الانتخابية (الديمقراطية) استمرت عبر التنسيق مع المحتل للفوز بعدد معين من المقاعد الانتخابية أو المناصب السيادية والمهمة!
وقد بلغ الوعي العراقي الشعبي بحقيقة الديمقراطية غير النقية عبر المقاطعة الكبيرة للانتخابات الأخيرة والتي قيل إنها وصلت في بعض المحافظات إلى دون العشرة بالمئة، وبالمعدل العام إلى ما يقارب 25 بالمئة رغم الإصرار الرسمي على أنها تجاوز نسبة 40 بالمئة من المشاركة!
ويمكن هنا أن نذكر أهم أسباب سقم الديمقراطية العراقية، ومنها:
- عدم وجود أحزاب وطنية واضحة البرامج والأهداف وقادرة على إقناع الجماهير بخططها المستقبلية.
- غياب الشفافية في آليات وترتيبات المشاركة وكذلك التلاعب الواضح في نتائج الانتخابات.
- استخدام المال العام في شراء أصوات الفقراء والمعوزين والعاطلين عن العمل.
- التدخل الخارجي الواضح في الترشيحات للمناصب السياسية والحساسة.
- سحق واغتيال الأصوات المعارضة للعملية السياسية سواء من المشاركين في العمل السياسي أو من الإعلاميين.
ولقد خسر العراق مئات الشخصيات الإعلامية الراقية التي حاولت نقل الحقيقة للعالم، ومن بينهم مراسلة العربية أطوار بهجت والمحلل السياسي الأمني هشام الهاشمي وغيرهما المئات!
أما على المستوى العام فقد اغتيل آلاف المعارضين والوجهاء والتدريسيين والنخب المجتمعية والعلمية وآخرهم إقبال دوحان شيخ عشيرة آل مرمض في الديوانية الجنوبية، والذي اعتقل في العاشر من أيلول/ سبتمبر الحالي بعد انتقاده للمالكي، واتهمت عائلته "الحشد الشعبي" باعتقاله، وأطلق سراحه بعد ثلاثة أيام، ووجد في مستشفى الكرخ ببغداد وعليه آثار تعذيب واضحة، وفارق الحياة بعد 24 ساعة من إطلاق سراحه!
هذه الأسباب وغيرها جعلت الديمقراطية العراقية واحدة من أسوأ الديمقراطيات في العالم وليس في الشرق الأوسط فحسب.
إن الديمقراطية ليست مجرد عملية انتخابية لإفراز مجلس للنواب أو حكومة ما، ولكنها في الحقيقة عقد توكيل من الشعب لمجلس النواب والحكومة ورئيسها، وهذا العقد يفترض أن يُصان من جميع أطرافه وإلا فلا قيمة له!
إن الديمقراطية الصحيحة هي الأساس لبناء دولة كفيلة بتقديم الخدمات الصحية والبلدية وتنظيم المؤسسات العامة والخاصة، وهذا ما يفتقر إليه العراق اليوم!
ولا يمكن نكران أن الديمقراطية الحقيقية هي وسيلة لتحقيق الكثير من رغبات الشعوب وطموحاتهم فيما لو طبقت بشكلها الصحيح البعيد عن التدخلات الداخلية والخارجية!
والديمقراطية النقية كفيلة بالتداول السلمي للسلطة وبتقديم الأصلح والأحسن للناس، والقدرة على الدفاع عن حقوق العاطلين والفقراء والمهجرين والمغتربين والمظلومين والمعوزين.
إن الديمقراطية الصحيحة هي الأساس لبناء دولة كفيلة بتقديم الخدمات الصحية والبلدية وتنظيم المؤسسات العامة والخاصة، وهذا ما يفتقر إليه العراق اليوم!
ومن هنا يفترض العمل على إعادة النظر في حقيقة الديمقراطية العراقية لأنها ديمقراطية وهمية لا وجود لها على الأرض، ولم تقنع الناس بقدرتها على تحقيق أمانيهم وطموحاتهم!
ولا ندري ما هي فائدة الديمقراطية إن لم تقدم للناس الأمن والحرية والحياة الكريمة؟