لا شك أنه يضع أسطورته الخاصة في الحكم من واقع هواجس مرضية لا تخرج عن كونها سفسطة شبيهة بتصوره الواهم عن الأبدية، وكأنه يستخدم مغالطات إشكالية لا تخرج بدورها عن نطاق القوالب الجاهزة التي تختلط فيها المفاهيم وتتشوّه المرجعيات الوطنية.
أتحدث عن نظام الأسد، بالطبع، الذي بلغ ذروة الشيخوخة والانحلال. فالآفات الكارثية التي يعاني منها السوريون، كمخرجات حتمية لدمويته العابثة، لم تؤدِّ في الحقيقة إلا إلى تصدّع البناء بكامله. هيكل الرعب "المقدس" هذا بدأ فعلاً بالانهيار منذ فترة طويلة وهو الآن يعيش مرحلة التحلل النهائية.
ثمة تمظهرات كثيرة لهذا الانهيار، ليس بداية بآخر ما كشف عنه موقع Global Econom المتخصص بدراسة الآفاق الاقتصادية للبلدان، وارتفاع معدلات هجرة الأدمغة والكوادر العلمية في العالم العربي، لتتصدر سوريا المؤشر كأسوأ الدول العربية نتيجة الأوضاع السياسية والاقتصادية الكارثية، مروراً بحصولها على المرتبة قبل الأخيرة في قائمة مؤشر الفساد العالمي، وفقاً للتقرير السنوي الذي أصدرته "منظمة الشفافية الدولية"، ثم معاناتها من أزمة حادة في الأمن الغذائي بلغت حدّ المجاعة، بعدما وصل معدل الفقر بين السوريين لأكثر من 90%، وفق الأمم المتحدة، في ظلّ تراجع القدرة الشرائية للمواطن مع انهيار الليرة السورية، وليس نهاية بتصنيف العاصمة دمشق على أنها أسوأ مدن العالم معيشة...إلخ.
رؤيتان تصفان بدقة متناهية عقلية الأسد، الذي ورث واحدة من أكثر الديكتاتوريات وحشية في الشرق الأوسط، وقصراً منيفاً يتربع على مرتفعات دمشق، يمارس من خلاله سياسته الاستبدادية "الشاذة" بإعمال المؤامرات "مسبقة الصنع"
(السلطة المطلقة مفسدة مطلقة) قالها السياسي البريطاني لورد آكتن في القرن التاسع عشر، فغدت أبرز مكونات العقل السياسي العربي، على التوازي يؤكّد عبد الرحمن الكواكبي أنّ داء الأمة يكمن في إنتاج المستبد الذي (يحكم الناس بهواه لا بشريعتهم، ويعلم من نفسه أنه الغاصب المتعدي، فيضع كعب رجله على أفواه الملايين يسدها عن النطق بالحق والتداعي لمطالبته)، رؤيتان تصفان بدقة متناهية عقلية الأسد، الذي ورث واحدة من أكثر الديكتاتوريات وحشية في الشرق الأوسط، وقصراً منيفاً يتربع على مرتفعات دمشق، يمارس من خلاله سياسته الاستبدادية "الشاذة" بإعمال المؤامرات "مسبقة الصنع"، لذا يصبح من الاستحالة بمكان الدفاع عن فكرة أنّ "السياسة الأسدية" نشاط نبيل يخدم الصالح العام، لأنها ببساطة فنّ تصنيع الأزمات المزمنة ثم علاجها بالنواح والندب الحاراتي والتجييشي مدعية البراءة والطهر. ليست هذه عبقرية في الأداء السياسي، على الإطلاق، بل هي انحطاط أخلاقي مطلق تنسخه الدكتاتوريات بعضها عن بعضها الآخر في تكرار مملّ يستدعي التأمل طويلاً في حيثياته ومسبباته.
عوداً على بدء يُطرح السؤال الجوهري التالي: متى بدأ نظام الأسد يتآكل من الداخل فعلياً؟ بداية علينا الاتفاق أنّ نظام الأسد، باعتباره عقيدة سلطوية ذات طبيعة قسرية، محترفٌ في فن المحاكاة والإخفاء، ولديه روح مرنة بما يكفي لتفكيك "الدولة الوطنية". ينهل من موارد "العنف الرمزي"، كسلطة معنوية قاهرة للهيمنة على الرأي العام.
وعليه بدأ النخر الداخلي مذ نشر الفضاء الحاكم قاذوراته السياسية. لعلّ أبرزها التصريحات والخطابات والقوانين الاستفزازية المنفصمة عن الواقع المأزوم، وهي ليست أمراً عبثياً ارتجالياً، بل هي استراتيجية ممنهجة تعكس تغيّرات لافتة في المفاهيم الأخلاقية والقيمية السياسية في مستوى أدمغة "مسؤولي الأسد"، والتي أصبحت مستبطنة في العقل الجمعي، ومؤطرة إعلامياً ونفسياً وثقافياً وسياسياً. ليتحول الانتهازيون، أصحاب النظرة البراغماتية والمواقف الثعلبية، بين عشية وضحاها إلى سادة المشهد السياسي في البلاد. إذ ما كان غريباً ومحرماً سياسياً أصبح مألوفاً، وأصبح المعتاد والمباح غريباً وغير مقبول.
هذه المرحلة المضطربة التي تسودها مشاعر الاغتراب واليأس والقهر والقلق، تبشّر ببداية تغييرٍ واسع النطاق، ترافقه عمليات تشويه، وصراع خفي لوأد النظام المستبد أو تقزيمه، مستغلاً الكثير من نقاط الضعف والتناقضات التي أنتجها.
وفي الواقع ما أضعف نظام الأسد، حرفياً، أنّ الأخطار الخارجية التي تهدّد وجوده لم تعد ذات أبعاد عسكرية فقط، وإنّما تعدّدت ميادينها، فأصبحت محلية تديرها قوى سياسية داخلية مدعومة من الخارج عبر عديد من الآليات والذخائر الناعمة والخشنة معاً.
في هذا الوقت يبدو نظام الأسد منشغلاً بإثارة قضايا داخلية هامشية، اتسعت رقعتها أفقياً وعمودياً، حتى أصبح السوريون جميعاً متورطين في واقع تصارعي متوحّش لا يحتكم لأيّة قيمة إنسانية. والغاية تنميط سلوكيات لا معيارية مرضية تضعف روابط المواطن بمجتمعه حتى يشعر بحالة من الاغتراب عن وطنه. ومن ثم، عندما تنضج هذه الأمراض تصعد من العمق إلى السطح لتتكثف الحملات الفتنوية كي يتطبع معها الناس في سلوكياتهم وتمثّلاتهم الاجتماعية.
في السياق يقول فرانسوا بايار (إنّ الهوية مرتهنة دوماً بكيمياء الواقع الاجتماعي)، وما فعله نظام الأسد هو تشويه المجتمع السوري وتسطيح مقوماته الحضارية، كمدخل لتحريف التاريخ وإعادة هندسة المستقبل، عبر إثارة المعارك "المفتعلة" وأشكال التناحر وبث روح "الفتنة".
أيضاً التسويق الرخيص لأهزوجة "اللوحة الفسيفسائية السورية الفريدة" في وقتٍ نسف فيه كلّ ما يوحد المكونات السورية لصالح شبكات المصالح الشخصية والشللية الحزبية الضيقة.
القراءة الواقعية للمشهد السوري اليوم، لا شك أنها تثير الخوف على المستقبل من ديكتاتور يضحك لمآسيها ويستغل كوارثها ويستثمر معاناتها ويسرق خيراتها..
انطلاقاً من فشله أخلاقياً وسياسياً أستندُ إلى واقع تآكل النظام وحتمية سقوطه القريب. ولن يفيد الأسد على الإطلاق أنّ بعض الأنظمة العربية عكفت ومنذ زلزال شباط/ فبراير على انتشال جثة نظامه المتهالك من بين الأنقاض وإدخاله غرفة الإنعاش، لتتسارع وتيرةُ تطبيعٍ يرتبط بخريطة التموضعات الإقليمية الجديدة، والتنافس بين عدد من الدول على أدوار سياسية واقتصادية في سوريا بوصفها ساحة مفتوحة لتصفية حسابات أو توسُّعِ أدوار.
بناءً على كلّ ما تقدّم من معطيات، يصبح التقرّب من نظام الأسد مجرّد تطبيع بلا شروطٍ قابلة للتحقيق على المدى المنظور، ولم يُنسَ تاريخه الأسود بعد. قد يتمكن الأخير من إعادة إعمار البنية التحتية، غير أنَّ مشروع مارشال عربي ليس مشروعاً مالياً يمكن أن تضخّه الدول العربية في الخزائن السورية، فهو يحتاج إلى شروط سياسية حقيقية، ومنها أن تكون "الحكومة السورية" التي ستتلقى هذه الأموال ممثلة لمصالح شعوبها، رشيدة ومنتخبة، تُحدّد أهدافها بدقة وتضع خريطة طريق سليمة لأهم المشاريع التنموية. أيضاً أن تكون قادرة على محاربة الفساد والإفساد، وهذا، بالتأكيد، أبعد ما يكون، وبملايين السنين الضوئية، عن واقع حكومة الأسد الحالية.
على أية حال.. القراءة الواقعية للمشهد السوري اليوم، لا شك أنها تثير الخوف على المستقبل من ديكتاتور يضحك لمآسيها ويستغل كوارثها ويستثمر معاناتها ويسرق خيراتها..، لكن مع الوقت يمكن دائماً رفع سقف الآمال، انطلاقاً من حقيقة جلية وهي: (عندما يغرز الديكتاتور مخالبه في جسد بلاده المنهكة، فإنه لا يفعل شيئاً سوى تلويث عباءة الحكم بالدماء، لتشمّ ضباع السياسة المتربصة رائحته، كما لو كان جثة في العراء). من هذا المنطلق لا يمكن لمعالم الثورة السورية، بسلبياتها وإيجابياتها، أن تتضح إلا بالتدريج وعبر عقود قادمة. هذه هي طبيعة الثورات الشعبية وتوابعها. لذا ليس علينا تأبيد الحالة الراهنة وتعميمها على ما سيأتي، فلكي يكون مستقبل الديمقراطية والحرية ودولة المواطنة والقانون ممكناً، لا بدّ أن نفكر بكلّ هذا بشكلٍ جديد، لا كشعارات رنانة أفرغت من محتواها وصارت تنتج نقائضها فقط.