على إحدى منصات التواصل الاجتماعي؛ التي أصبحت ساحة بارزة في التنابذ الأيديولوجي؛ أقيمت ندوات كثيرة وذات يوم دعي كاتب السطور لندوة عن الحريات والحقوق في شرعة الأمم المتحدة وضرورات تبنيها، ولست أعرف لماذا أستذكر نظرية تعتمد الأخطاء المتتابعة والتي تقوم بحشر فخ لامع يبدو صغيرا وغير ملحوظ لينتشر كحريق مكتوم تحت بساط واسع لا يظهر حتى يكون قد جعلها رميما.
وبما أن السعي الحثيث نحو تنظيرات عن الحرية والحقوق أمر لابد منه، فعلى المرء أن يطرح رؤيته لشركاء مفترضين دون مواربة، معبرا عن رفضه أو نقده أو تحديده لكثير من المضامين أو تبيئتها بما يتفق وكل مجتمع وثقافة، قبالة ذلك نجد أنها تطرح محمولة على حامل هيمنة وتعال إنساني وأخلاقي في غمرة الذبح اليومي لأبناء غزة؛ ما وضعنا أمام عالم يكذب وأمم غير متحدة ولكن متفقة على سطوة الموت والدمار وتكتفي بالرموز والشارات والأيقونات البراقة؛ فما كان مني إلا طرح موقفي برفضها وفقا لهذا الإطار المطروحة فيه؛ كبنية فوقية منجزة ينبغي اتباعها وتبنيها وكأنها وافدة من السماء، لكن ذلك لا يعفي من التفكر بضروراتنا كشعوب شرق مضطهدة؛ شرط أن تعزل سعيها عن التبعية نظريا وأخلاقيا لمفاهيم القوة والسطوة والهيمنة وسلطة الثقافة الغالبة، أمام هذا الشرط نجد أنفسنا تجاه طرح لابد أن يتناول ثلاثة مستويات: دراسة المنظومة الحقوقية المطروحة من أعلى، والمجتمع المستهدف كمجال وطني مشرقي أدنى، ونقطة تمفصل بينهما هي النخب الطارحة لهكذا مشاريع؛ باعتبارها ترى في نفسها نخبا وتدعي ضرورة الاضطلاع بدور وازن.
يبدو المصدر - الأمم المتحدة- إشكالا، كما تبدو طريقة استقباله دعائية وفوقية؛ وخصوصا عند قراءة نخبنا لمجتمعاتنا التي تم تصوير بناها الاجتماعية كبنى ثابتة ستاتيكية جوهرانية
إن حزمة الحقوق والحريات المقرة في شرعة الأمم المتحدة جاءت معبرة عن منظومة فوقية ترى أنها تمثل آخر ما وصلت له الإنسانية من إنجاز، غير أن ما يكشف إعضالها هو رمزيتها الكبيرة التي أصبحت غير قابلة للطعن أو النقد وغير مفتوحة على تفصيلات وتمييزات قوانينها؛ التي بدأت بحرية الفرد وانتهت تأويلات القوى الدولية إلى انتهاكه أو استرقاقه في بدانها؛ وقتله في بلدان أخرى تحت مسمى تحريره، وقد يزيد في إعضالها أو تشويهها حالة استقبال نخبنا لها عبر اعتبارها مقدسة لمجرد أنها تنبع من مؤسسة أممية، ما يعني حالة انحياز لها وتسلح بها وكأنها خطة التسويق الإعلامي لحزب سياسي لدى قوة دولية كي يتم تبنيه، على شاكلة أحزابنا التي حشرت كلمة الديمقراطية في أغلب تسمياتها، في حين يمكن استقبالها بعيدا عن إطار وفودها لنا على حامل كولونيالي أو حداثي محمول في أطر هيمنة، وتفوق حضاري، ووصاية عالمية فوقية؛ لا تخرج عن رؤية مركزية غربية تجاه عالم هامشي يشغل الجنوب والشرق، سيكون الموقف مختلفا تماما فيما لو تم البحث عنها في شريعة حمورابي أو وصايا ماني، أو لمفكر من موزامبيق أو زمبابوي، أو الأديان، أو سائر طروحات الشرق حتى الكولونيالي منه؛ مع ملاحظة تصفع الوجه عبر تساؤل بسيط أين تلك الحقوق عندما كانت نخبنا غارقة في زحام الماركسية؟
يبدو المصدر - الأمم المتحدة- إشكالا، كما تبدو طريقة استقباله دعائية وفوقية؛ وخصوصا عند قراءة نخبنا لمجتمعاتنا التي تم تصوير بناها الاجتماعية كبنى ثابتة ستاتيكية جوهرانية، وينظر للإثنيات والطوائف على أنها مقتتلة ونحتاج لقوانين فيدرالية وتشتيتية تهدف إلى تذرير المجتمع؛ تحت مسميات براقة تخدم برامج دولية لم تقدم شيئا لشعوب الربيع العربي تكريسا لحالة الأنظمة الوظيفية التي تخدم مراكز القوة الغربية، ما يدفعنا لتعريف جديد لثوراتنا المخذولة أنها ثورات لم تكن ضد طغاة محليين بل ضد نظام عالمي كامل.
في المستوى الثاني وهو المجال الخاص بمجتمعاتنا نجد أن تغولا في توصيفها كداخل أدنى من العالمي أو الأممي، كما تمت شيطنة هذه المجتمعات التي تبدو كأنها كانت تحترب منذ قرون، ولابد من إنهاء احترابها التاريخي عبر وصاية عليها وحشرها في قوالب جاهزة؛ تشبه تلك التي تم استجلابها في عهد الماركسية إبان سطوة الاتحاد السوفييتي، وقد يبدو ناشزا طرح تصور تم إغفاله تكريسا لتلك الفرقة والتنابذ المصنوع بعناية، وهو اعتقاد تؤكده وقائع الأرض؛ حول السوريين في الداخل ورغم عجزهم عن ممارسة العمل السياسي الحر في البيئات الواقعة تحت سيطرة الأسد؛ فإنهم فيما لو تم مجرد رحيله سيكونون أقدر من نخبنا على إنجاز دولة حقوق وحريات وطنية، وتمتاز برصيد من تشابك شتى أبناء الطوائف والأقليات والإثنيات في عيش مشترك ما زال إنسانيا بكرا لم تخربه أروقة السياسة بعد؛ في حين أنا افتقدناه بتنابذنا خلف أيديولوجياتنا، حيث مازال يعيش العربي والكردي متجاورين مثلما تحضر أمثلة التعايش المشترك يوميا بما لا يتسع المقال عن سرد أمثلته من أبناء الطوائف على اختلاف مذاهبهم، متفقين أن الإنساني المعاش معزول عن السياسة المشهودة على الساحة هناك.
إن مشكلة تصوير مجتمعاتنا قبالة حزمة الحقوق الأممية على أنها مستوى أدنى؛ خضعت لتأثير تلك الهيمنة والسطوة التي صورته كأعلى وأدنى
يشير "هرم ماصلو" إلى سلم الاحتياجات التي يحتاجها الفرد حيث تنبني قاعد الهرم على تأمين الحياة والاحتياجات الأساسية من مأكل ومطعم، ثم يتدرج لأعلى فأعلى حيث الاحتياجات الأخرى الإنسانية من حب وحياة وتزاوج واجتماع، حتى تصل إلى حقوق التعبير عن الذات والرأي والموقف، ويقوم هذا الهرم على قاعدة أنه لا يمكن السعي إلى مرحلة أعلى ما لم يتم إنجاز الأدنى التي تعتبر قاعدة لما بعدها، ولا يغيب عن أحد أن ثورتنا قد اندلعت تحت مسعى الكرامة والحقوق وهي أعلى الهرم المذكور وقد آلت إلى أدنى قواعدها – حق الحياة- بفعل مصالح الدول التي استثمرت في ثورتنا وحولتها إلى أزمة قابلة للاستثمار، ما أعادنا إلى مربع أول؛ في حين تعبق برامج النخب ومازالت تبحث في ذروة سنام هرم نسفت قاعدته عبر برامج تلك الدول ذاتها؛ والتي نشطت في تشظية شعبنا عبر تيارات وأيديولوجيات وحولت ثورة اندلعت تحت هدف حرية وكرامة وعدل، وبشعار "واحد واحد واحد الشعب السوري واحد" وكانت تجربة الثورة ويومياتها ومظاهراتها التي اشتركت فيها النساء حتى في البيئات المحافظة بقوة واقتدار، تنبئ عن فعالية المرأة وفتح مجالات العمل والحياة التي لم تكن معدمة أصلا، وبعد عام من تلك الاندلاعة تحولت أهداف ثورتنا التي لعبت بها مراكز الدراسات الدولية إلى "حماية الأقليات" وكأنها اقتتلت أو عانت قتلا وتهجيرا وتطهيرا، ومنظمات مجتمع مدني من "مؤسسات حوكمة وعدالة انتقالية" في ظل نظام دولي هو ذاته لا يسعى لمحاكمة الأسد و"حركة نسوية" تصر على أنها نسوية وليست نسائية؛ وتفتخر بتشكيلها "لوبي نسوي"، ونزوعها منزعا أيديدولوجيا، في مجتمع لم يسطع مثقفوه ومنذ قرن تمييز العلمانية وتبيئتها أو تبرئتها مما شابها من دعاتها ومسوقيها الفاشلين، ولم يميز حملتها بين علمانية ألمانيا ولائكية فرنسا؛ ووقفوا مذهولين أمام قَسَم ملك بريطانيا على الإنجيل وخدمة الكنيسة إبان حفل تنصيبه.
إن مشكلة تصوير مجتمعاتنا قبالة حزمة الحقوق الأممية على أنها مستوى أدنى؛ خضعت لتأثير تلك الهيمنة والسطوة التي صورته كأعلى وأدنى؛ في حين تمكن ثنائيات الداخل والخارج، المحلي والوافد من تفسير كثير من الظواهر وتفيد في تجريد الوافد من سطوته وأطر هيمنته، وهو ما يحيلنا إلى تتبع النقطة الثالثة فيما تم افتراض دراسته وهي نقطة الوسيط أو التمفصل بين الأممي والمحلي؛ أي النخب التي وقعت في غمرة الذهول التي لا يمكن تفسيرها إلا وفقا لنظرية أرنولد توينبي التحدي والاستجابة، مع ممارستها تعاليا ونخبوية على شعوبها مع تكريسها وجود أنساق معارضة أو ثائرة في جزر معزولة كرستها الأيديولوجيات وفتاتها، يظهر أرخبيل الجزر السورية في الداخل مثيرا للتفاؤل بسوريا يبنيها الجميع أكثر منها، حيث وقعت نخبنا في خطأ اشتغالها بالعقل السياسي الباحث عن ترويج وتحشيد ودعم دولي بدلا من العقل الثقافي الذي يستهدف الارتقاء بالمجتمع والتفاعل معه وضمنه والبناء على ثقافته وإمكانات تطويره وفتح باب الفاعلية الاجتماعية لكل فاعليه المحليين وطاقاته البعيدة عن التأطير.