مضت 100 يوم على الحرب الإسرائيلية على غزة في أطول حرب خاضتها إسرائيل منذ عام 1948 لقد غزت إسرائيل شمالي غزة بنحو 40 ألف جندي مقاتل، ثم عزلت شمالي غزة عن جنوبها وبدأت بقصف غزة بواحدة من أعنف حملات القصف في التاريخ. ونتيجة لذلك نزح ما يقارب من مليوني شخص من منازلهم. وقد قُتل أكثر من 24 ألف شخص وفقا للإحصاءات الصحية في غزة تقريبا نحو الثلثين من النساء والأطفال، وقد اعترفت وزارة الخارجية الأميركية أن الحصيلة الحقيقية قد تكون أعلى من ذلك. وقصفت إسرائيل المستشفيات وسيارات الإسعاف ودمرت نحو نصف المباني في شمالي غزة. ما أدى إلى قطع جميع إمدادات المياه والغذاء وتوليد الكهرباء تقريبا عن سكان غزة البالغ عددهم 2.2 مليون نسمة. وبأي تعريف، تعتبر هذه الحملة بمنزلة عمل ضخم من أعمال العقاب الجماعي ضد المدنيين. ولذلك لم يكن مستغربا أبدا اتهام إسرائيل بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين في غزة.
وحتى الآن، مع توغل القوات الإسرائيلية بشكل أعمق في جنوبي غزة، فإن الهدف الدقيق للنهج الإسرائيلي ليس واضحاً على الإطلاق. ورغم أن رئيس الوزراء الإسرائيلي يردد أن القوات الإسرائيلية تستهدف حماس وحدها، فإن كل الدلائل تشير إلى أن إسرائيل تهدف إلى تحطيم غزة ومحوها من الوجود كما أشار أكثر من وزير إسرائيلي في حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة.
بالرغم من كل ذلك فإن الأهداف التي وضعها الجيش الإسرئيلي في القضاء على حماس وتحرير الرهائن لم يتحقق شيء منها، وهو ما يعكس الفشل الذريع للجيش الإسرائيلي في التصدي لهجوم حماس في 7 أكتوبر/تشرين الأول أولا، وثانيا في تحقيق الأهداف التي أعلنت عنها القيادة الإسرائيلية.
العقوبات المدنية الجماعية لم تقنع سكان غزة بالتوقف عن دعم حماس. بل على العكس من ذلك، فقد أدى ذلك إلى تفاقم الاستياء بين الفلسطينيين
وأياً كان الهدف النهائي فإن التدمير الجماعي الذي تلحقه إسرائيل بقطاع غزة يثير مشكلات سياسية وأخلاقية عميقة لإسرائيل خاصة بعد الدعوى التي رفعتها جنوب إفريقيا أمام محكمة العدل الدولية، مفندة الحجج الإسرائيلية ومتهمة الحرب الإسرائيلية على غزة بأنها هدفت إلى الإبادة الجماعية بشكل جزئي أو كلي للسكان الفلسطينيين في غزة.
وفوق ذلك كله لابد من القول إن العقوبات المدنية الجماعية لم تقنع سكان غزة بالتوقف عن دعم حماس. بل على العكس من ذلك، فقد أدى ذلك إلى تفاقم الاستياء بين الفلسطينيين. كما أن الحملة لم تنجح في تفكيك حماس التي كانت مستهدفة ظاهريا. وبعد ما يزيد عن مئة يوم من الحرب وتدمير غزة، إلا أن إسرائيل لا تستطيع تدمير حماس. في الواقع، قد تكون حماس الآن أقوى مما كانت عليه من قبل.
إن إسرائيل ليست الدولة الأولى التي تخطئ عندما تضع ثقتها المفرطة في القوة الجوية. يُظهر التاريخ أن القصف واسع النطاق للمناطق المدنية لا يحقق أهدافه أبدًا. وأعتقد أن التجربة السورية أكبر دليل على ذلك.
فالقصف الجوي يهدف إلى إجبار المدنيين على الاستسلام وتحطيم معنوياتهم. وتقول النظرية إنه عندما يتم دفعهم إلى نقطة الانهيار، فإن السكان سوف ينتفضون ضد حكوماتهم ويغيرون مواقفهم. وصلت استراتيجية العقاب القسري هذه إلى ذروتها في الحرب العالمية الثانية. يتذكر التاريخ القصف العشوائي للمدن في تلك الحرب: هامبورغ (40 ألف قتيل)، ودريسدن (25 ألف قتيل).
والآن يمكن إضافة غزة إلى هذه القائمة سيئة السمعة. وقد شبه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الحملة الحالية بمعركة الحلفاء في الحرب العالمية الثانية. وبينما نفى تورط إسرائيل في العقاب الجماعي اليوم، أشار إلى أن غارة جوية تابعة لسلاح الجو الملكي استهدفت مقر الجستابو في كوبنهاغن أسفرت عن مقتل العشرات من تلاميذ المدارس.
وما لم يذكره نتنياهو هو أن أياً من جهود الحلفاء لمعاقبة المدنيين بشكل جماعي لم تنجح فعلياً. في ألمانيا، تسببت حملة قصف الحلفاء، التي بدأت في عام 1942، في إحداث دمار كبير في صفوف المدنيين، حيث دمرت منطقة حضرية تلو الأخرى، وفي نهاية المطاف ما مجموعه 58 مدينة وبلدة ألمانية بحلول نهاية الحرب. لكنها لم تضعف أبدًا معنويات المدنيين أو تؤدي إلى انتفاضة ضد أدولف هتلر، على الرغم من التوقعات الواثقة لمسؤولي الحلفاء. في الواقع، شجعت الحملة الألمان على القتال بقوة أكبر خوفًا من السلام الصارم بعد الحرب.
ولا ينبغي لهذا الفشل أن يكون مفاجئاً إلى هذا الحد، نظراً لما حدث عندما حاول النازيون استخدام نفس التكتيك. وأدى الهجوم الخاطف، وهو قصف لندن والمدن البريطانية الأخرى في الفترة من 1940 إلى 1941، إلى مقتل أكثر من 40 ألف شخص، ومع ذلك رفض رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل الاستسلام. وبدلاً من ذلك، استحضر الخسائر البشرية الناجمة عن ذلك لحشد المجتمع لتقديم التضحيات اللازمة لتحقيق النصر. وبدلاً من تحطيم الروح المعنوية، حفزت الغارة بريطانيا على تنظيم جهد دام سنوات - مع حلفائهم الأميركيين والسوفييت - للهجوم المضاد وغزو الدولة التي قصفتهم في نهاية المطاف.
على الرغم من ما يقرب من ثلاثة أشهر من العمليات العسكرية المكثفة إلا أن إسرائيل لم تحقق سوى نتائج هامشية
في الواقع، لم يحدث في التاريخ أن تسببت حملة قصف في قيام السكان المستهدفين بالثورة ضد حكومتهم. وقد جربت الولايات المتحدة هذا التكتيك مرات عديدة، ولكن دون جدوى. وخلال الحرب الكورية، دمرت 90% من توليد الكهرباء في كوريا الشمالية. وفي حرب فيتنام، قضت على نفس القدر من القوة في فيتنام الشمالية. وفي حرب الخليج، عطلت الهجمات الجوية الأميركية 90% من محطات توليد الكهرباء في العراق. لكن في أي من هذه الحالات لم ينتفض السكان ضد حكوماتهم.
وهذا النمط التاريخي يكرر نفسه في غزة. وعلى الرغم من ما يقرب من ثلاثة أشهر من العمليات العسكرية المكثفة إلا أن إسرائيل لم تحقق سوى نتائج هامشية. وبأي مقياس ذي معنى، فإن الحملة لم تؤد إلى هزيمة حماس ولو جزئياً. ولم يتم تفكيك البنية التحتية العسكرية لحماس، كما هي الآن، بشكل ملموس، حتى بعد العمليات التي تم التبجح بها ضد مستشفى الشفاء، والذي زعم الجيش الإسرائيلي أن حماس تستخدمه كقاعدة عملياتية. ولم تنجح الحملة العسكرية الإسرائيلية في إضعاف سيطرة حماس على غزة بشكل كبير. ولم تنقذ إسرائيل سوى رهينة واحدة فقط من بين 240 رهينة تم أسرها في هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول. وأطلقت حماس سراح الرهائن الآخرين الوحيدين عبر المفاوضات فقط. فهل تتعلم إسرائيل الدرس؟ أشك في ذلك.