على موقع برلمان النمسا عبر النترنت ثمة ردّ موجه من وزير العدل النمساوي يتكون من ست عشرة صفحة، على ثلاثة عشر استفساراً برلمانياً بتاريخ 25 كانون الثاني من سنة 1995 حول الدكتور فيصل سماق: متى وأين وظروف اعتقاله؟ وهل كان هناك طلب تسليم من ألمانيا؟ ومن قام بالتدخلات الدولية وأسباب تدخل رئيس الدولة السورية للإفراج عنه؟ وما هي الاعتبارات التي أدت إلى الإفراج عنه من قبل المحكمة الإقليمية العليا في فيينا؟ وهل حجة الحصانة للإفراج عنه كمندوب لليونيدو (منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية) صحيحة؟ وهل دخل النمسا بتأشيرة سياحية؟ وهل لدى اليونيدو اعتماد في النمسا؟ ومن أين جاء النشاط المفاجئ للدكتور سماق ليكون مندوباً لليونيدو؟
ردُّ وزير العدل النمساوي على أسئلة برلمان بلاده يجيب كذلك عن سؤال شخصي، بقي معلقاً أكثر من ربع قرن حول غياب مدير المؤسسة العامة للتبغ فصلاً دراسياً كاملاً عن طلابه في نهاية عام 1994!
لم تكن هيئة الرجل الذي يسكن المزة/ الفيلات الغربية في أحد الأبنية المرتبطة بالقصر يوحي بأي حالة إجرامية على المستوى الدولي، أو أنه موضوع مساءلة برلمانية لدولة أوروبية ذلك أن تعامله مع زملائه في قسم اللغة العربية كان تعاملاً لطيفاً جداً، وهو الذي كان يتسم بهدوئه الشديد، مع ترفّعٍ عن كثير من التفاصيل التي يركض خلفها أساتذة الجامعات (كحال كثير من المواطنين السوريين)، نتيجة الحاجة أو النهم أو عدم الشعور بالأمان. فقد كان يأتي الرجل دون مرافقة، بسيارة المرسيدس، يبادل من يلتقيهم التحية بأحسن منها، ولا يتردّد بمساعدة من يطلب منه مساعدة من شقيقه معاون وزير الصناعة، أو شقيقه الآخر مدير مشفى الهلال الأحمر!
تدخل حافظ الأسد لإخراج فيصل سماق من التوقيف في النمسا سابقة غير موجودة في تاريخ سوريا لدى نظام يعتقل عشرات الآلاف من مواطنيه
لم يكن يومها يوجد (غوغل)، وكان أهم مصدر للمعلومة آنئذ هو (قيل عن قال)، وكان بيننا زملاء تنبني نجوميتهم نتيجة علاقتهم مع الأساتذة، حيث ينقلون لنا الأخبار والتفاصيل، وكان إخفاء المعلومات في سوريا جزءاً من طبيعة النظام الأمنية والقمعية، بل الإخفاء في حدّ ذاته سياسة استعملها النظام عبر تاريخه، وفي مرحلة ثورة 2011 استعاد التغييب دوره في تاريخ النظام، ويستمر حتى اللحظة في تغييب عشرات الآلاف من السوريين دون أن يخبر أهلهم عن مآلهم! ولعلّ سر تعاون معظم أجهزة المخابرات معه في العالم هي ما يمتلكه هذا النظام من معلومات، خاصة فيما يتعلق بملف الجهاديين والسلفيين وسواهم، إذ يدرك النظام السوري ألعاب المجتمع الدولي وكيف يستثمر بها.
تدخل حافظ الأسد لإخراج فيصل سماق من التوقيف في النمسا سابقة غير موجودة في تاريخ سوريا لدى نظام يعتقل عشرات الآلاف من مواطنيه. وإضافة إلى الأسباب العائلية والدور المكلف به، فهي تندرج ضمن تعاون أمني إيراني سوري، أسهم كذلك في الإفراج عن أنيس النقاش، الذي كان محكوماً بالسجن المؤبد، نتيجة محاولته اغتيال شاه إيران في فرنسا عام 1982، وهذا ربما يفسر انضمامه المباشر لجوقة المدافعين عن النظام السوري فور اندلاع ثورة 2011
وفي الوقت نفسه يعاني اللبناني جورج إبراهيم عبد الله في المعتقلات الفرنسية (أقدم معتقل سياسي) رغم انقضاء فترة محكوميته، لأنه لا أحد يدافع عنه أو يتبناه، وليس خلفه دولة قوية تتفنن في عقد الصفقات مع أطراف من المجتمع الدولي كإيران.
اعتقال فيصل سماق في النمسا عام 1994 جاء على خلفية دوره في جريمة، كان قد مر عليها أكثر من 12 عاماً، وهي تفجير المركز الثقافي الفرنسي ببرلين في 25 آب عام 1983 وقد بقيت الكثير من تفاصيلها مغيبة إلى أن تمّ اعتقال (الثعلب كارلوس) في السودان، ضمن عملية للمخابرات الفرنسية في 13 آب عام 1994 حيث كشفت التحقيقات معه بالتفصيل عن دور فيصل سماق في التفجير، وكيف مولت السفارة السورية في ألمانيا عدداً من تفجيرات كارلوس في أوروبا، وكيف كان يستعمل مقر السفارة السورية كمقر لعملياته بالتعاون مع سماق، بناء على توجيه مخابراتي إيراني سوري، بل إنه حصل على المتفجرات من مقر السفارة السورية بألمانيا. لذلك كانت التهمة الموجهة لسماق هي المشاركة بقتل مواطنين أوروبيين.
أكد حافظ الأسد ومن بعده بشار الأسد غير مرة أنّ قضية فيصل سماق تقف حجر عثرة أمام تحسن العلاقات بين ألمانيا وسوريا، التي أبدت استعدادها للتعاون في قضية (الزمار وصلاته بطياري 11 سبتمبر محمد عطا ومروان الشحي وزياد جراح) مقابل كف البحث عن سماق، ويتوقع أنه تم عقد صفقة سرية بين الدولتين بإشراف جهاز أمن الدولة (الفرع الخارجي) في المخابرات السورية وجهاز المخابرات الألمانية (بي إن دي)، وهذا ليس بغريب على المخابرات الأوروبية التي تبحث عن المعلومة وأمان مواطنيها، وإلا كيف سمحت لرفعت الأسد بالعودة إلى سوريا مؤخراً؟ وقد فشلت من قبل ضغوطات المخابرات الألمانية العلنية على حكومتها لكف البحث عن سماق، أو على الأقل استجوابه في دمشق، نتيجة ضغوطات أنيسة مخلوف على زوجها وابنها. مما دفع المدعي العام الألماني للبحث عن أي ثغرة قانونية لإغلاق ملف سماق، حفاظاً على التعاون المخابراتي مع النظام السوري. لكنه كان يصطدم بالقانون الألماني (بعد توحيد الألمانيتين) الذي لا يعترف بالحصانة القانونية، التي كان يتمتع بها السفراء الأجانب في ألمانيا الشرقية السابقة. وهو ما مكَّن سماق من التعاون مع الثعلب كارلوس دون أن يظن أنه سيأتي يوم ويُحَاسَب على ما قام به، وقد جاء اعتقال كارلوس واعترافاته ليقضي على أي أمل في هذا الجانب، وها هو كارلوس يقبع، اليوم، تحت الحراسة المشددة بسجن فرنسي بصفته السجين 872686.
المصورة الألمانية ماجدلينا كوب، زوجة كارلوس الأولى، كشفت في كتابها (سنوات الرعب: حياتي مع كارلوس) تفاصيل أخرى عن أنشطة كارلوس وعلاقاته، وقد قبض عليها في شباط 1982 في باريس، وهي تحاول تفجير مقر مجلة الوطن العربي، التي كانت تقف ضد النظام السوري وتشير إلى أفعال النظام وجرائمه مثل مجزرة حماة، وجرائمه في لبنان، خاصة أن صاحب المجلة ورئيس تحريرها الصحفي اللبناني وليد أبو ظهر لديه ثأر شخصي مع النظام، وقد أغلق جريدته المحرر في لبنان، بعد دخول القوات السورية إليها منتصف السبعينيات، وقد تزامنت تفجيرات كارلوس في أوروبا، ضمن سلسلة تفجيرات أخرى منها ما حدث في لبنان ضد القوات الأميركية والفرنسية، ضمن ضغط النظام السوري والإيراني على النظام الدولي، كي يصمت على مجزرة حماة ويغض النظر عن مشروع حزب الله، وكي يتمّ تمرير ترحيل منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان نهائياً.
ماجدلينا كوب التي رحلت عام 2015 مبتعدة عن السياسة في سنواتها الأخيرة، كشفت كيف أن النظام السوري استغلها هي وكارلوس خير استغلال عبر نقطتين هما:
محاولة تصدير أن النظام السوري يساري التوجه ويقود معركة ضد الإمبريالية!
واستثمار حاجتهما المادية والرغبة بالبطولة وتحقيق الانتصار.
وقد سبق أن انتقلت ماجدلينا كوب للعيش في دمشق، بعد أن قضت محكوميتها في كل من فرنسا وألمانيا، ليتم بعد ذلك ترحيلها إلى ليبيا، تزامناً مع مشاركة سوريا في حرب الخليج (نتيجة صفقة بين المخابرات السورية والألمانية) في إطار تبييض صفحة النظام السوري مطلع التسعينيات.
من حقنا كمواطنين سوريين في مرحلة ما، وضمن باب تحقيق العدالة، وإعادة شيء من سمعة سوريا وصورتها، ضرورة اعتذار النظام ورموزه عن هذا التاريخ المقزز
الدكتور فيصل سماق كان قد أخبر طلاب الأدب العربي في جامعة دمشق أنه سيغيب أسبوعاً فقط، حيث سيشارك في مؤتمر خارج سوريا، لذلك حين أطال الغيبة كانوا يرددون أغنية شهيرة آنئذ، للمطربة لطيفة: "حاسبْ من الوحدة عليَّ، واهجرني شوية شوية، خليني اتعوِّد بعدك، قبل الأيام الجاية!" شوقاً إلى أستاذهم المسافر، ولم يكونوا يعرفون أن أستاذهم متهم بجرائم دولية، وأنه جزء من مافيات حافظ الأسد!
وهذا يفتح الباب للقول: إنه من حقنا كمواطنين سوريين في مرحلة ما، وضمن باب تحقيق العدالة، وإعادة شيء من سمعة سوريا وصورتها، ضرورة اعتذار النظام ورموزه عن هذا التاريخ المقزز، المتعلق بتحويل جزء من سفارات تحمل اسم سوريا وعلمها لإدارة عمليات إرهاب دولية وقتل مواطنين من دول أخرى!