من القضايا الإشكاليّة التي تحتاج إلى تسليط الضوء عليها عمومًا، وازدادت الحاجة إلى ذلك عقب ثورات الرّبيع العربي؛ المسائل المتعلقة بالمؤسّسات والمنظمات والجمعيّات والجماعات والتيارات المنخرطة في الحقل العام، ومن أهم القضايا المتعلّقة بهذه الجهات؛ قضيّة المال تمويلًا وإنفاقًا ومنهجيّة التعامل معه.
-
ما الفائدة من بحث المسألة من حيثُ الأصل؟
يبقى سؤال الجدوى حاضرًا عند البحث في أيّة قضيّة من القضايا الشرعيّة أو الفكريّة، غير أنه من الجلاء بمكان أنّ مسألة أموال هذه المنظمات جزء من الأسئلة المؤرقة للعاملين فيها إن كانوا يتمتعون بضمير حيّ ورقابة ذاتيّة على التصرّفات، واستشعارٍ للمسؤوليّة واستحضارٍ لرقابة الله تعالى.
كما أنّها جزء من سؤال المتابعين من الجهات الرّقابيّة أو الجمهور العام؛ فالمسألة جزء من تحقيق الشّفافية التي تحقق الطمأنينة لهذه المؤسسات والمنظمات والتنظيمات سواء من الممولين أو المستفيدين.
إنّ حفظ المال هو من المقاصد الكليّة التي جاء الإسلام لحفظها ورعايتها، وفي هذا يقول الإمام أبو حامد الغزالي في كتابه "المستصفى":
"إن مقصود الشّرع من الخلق خمسة: أن يحفظ عليهم دينَهم ونفسَهم وعقلهم ونسلهم ومالهم، فكلّ ما يتضمّن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة".
ويعلّل عالم الاجتماع الأندلسي ابن الأزرق الغرناطي في كتابه "بدائع السلك في طبائع الملك" الاهتمام بهذه المقاصد الكليّة فيقول:
"لأن مصالح الدين والدّنيا مبنية على المحافظة عليها، بحيث لو انحرفت لم يبق للدّنيا وجود من حيث الانسان المكلف، ولا للآخرة من حيث ما وعد بها، فلو عدم الدّين عدم ترتّب الجزاء المرتجى، ولو عدم الإنسان لعدم من يتديّن، ولو عدم العقل لارتفع التّدبير، ولو عدم النّسل لم يمكن البقاء عادة، ولو عدم المال لم يبق عيش".
-
أنواع المال من حيث الملكيّة
تختلفُ فلسفة المال وملكيّته في الإسلام عن الفلسفات الاشتراكيّة والرّأسماليّة، إذ ينقسم المال في الشرع الإسلامي من حيث جهة التملك إلى قسمين رئيسين هما المال الخاص والمال العام ولا يجوز أن يطغى أحدهما على الآخر.
وقد عرّف الفقهاء المال الخاص بتعريفات متعدّدة يمكن إجمالها بقولنا:
"هو المال المملوك لمعيّن سواءٌ كان فردًا أم مجموعة أفراد، وله الحقّ في استثماره وصلاحية التّصرّف فيه، ومثل ذلك مال الشركة الخاصّة".
أمّا المال العام فقد عرّفه الفقهاء القدامى والمعاصرون بتعريفات عدّة كلّها تدور في فلك واحد، وأختار منها تعريف العالم الاقتصاديّ الأزهريّ الأستاذ الدّكتور عبد الحميد البعلي في كتابه "الملكيّة وضوابطها في الإسلام" إذ يقول:
"هو ما تكون ملكيّته للنّاس جميعًا، أو لمجموعةٍ منهم، دون أن يختصّ به أو يستغلّه أحدٌ لنفسه، أي يكون الانتفاع لموضوع المال العام لجميع أفراد الأمّة، أو لجميع أفراد جماعة معيّنة، دون أن يكون للفرد اختصاص، ولا يتجاوزه إلّا إذا تعارض انتفاعه مع انتفاع غيره من هؤلاء الأفراد، فعند ذلك يردّ إلى مشاركة غيره في الانتفاع على أساس من المساواة والعدل حيث لا يمنع انتفاع أحدهما من انتفاع الآخر".
ومن باب الاستئناس أنقل تعريف الإمام الماوردي للمال العام في كتابه "الأحكام السلطانيّة" إذ يقول:
"كلّ مالٍ يستحقّه المسلمون وحازوه بطريقٍ مشروع، ولم يتعيّن مالكه، ومصرفُه مصالحُهم العامّة، ويتولّى جمعه وصرفه ــ نيابةً عنهم ــ وليّ الأمر، أو نائبه".
ويطلق على المال العام عند الفقهاء إلى جانب هذه التسمية "مال المصالح" و"الملكيّة العامّة" و"الأموال الأميريّة" و"القطاع العام".
-
الأقسام الرّئيسة للمال العام
يمكننا تقسيم المال العام من خلال تعريفاته إلى قسمين رئيسين:
القسم الأوّل: الأموال العامّة المملوكة للدولة
فالدولة تملك هذه الأموال بوصفها شخصًا اعتباريًّا، ويجوز فيها للحاكم أو المسؤول الذي يحمل صفة "وليّ الأمر" صلاحية التصرّف في هذه الأموال بما يحقق المصالح العامّة وبما لا يتناقض مع أحكام الشّرع.
وهذه الأموال هي عادة المرافق العامّة في الدّولة؛ كالطرق والجسور والحدائق العامة والغابات، كما يدخل في الأموال العامة ما يتم استخراجه من باطن الأرض كالنّفط والمعادن والذهب والفضة، فكلّ ذلك من الأموال العامّة ولا يحقّ للحاكم الاستئثار الشخصيّ بها أو بجزء منها.
القسم الثّاني: الأموال العامّة المخصوصة
وهذه الأموال تكون مختصّة بمجموعة من الأفراد، أو بجماعة معيّنة من النّاس دون سواها، ويكون الانتفاع منها على وفق ما وضعت له هذه الأموال، لمصلحة الفئة المستفيدة، ويتولّى إدارتها شخص أو مجموعة أشخاص ينفقون هذا المال في المصرف الذي وضعت له بما يحقّق مصلحة هذه المجموعة المخصوصة دون أن يتناقض تصرّفهم فيه مع أحكام الشّرع.
ويندرج تحت هذا القسم أموال الجماعات والتّنظيمات وأموال المنظمات المختلفة بما فيها الجمعيّات الخيريّة أو منظمات المجتمع المدني أو المراكز البحثيّة التي لا تكون مملوكة لشخص بعينه ويكون تمويلها من جهات متعددة أو من أموال التبرعات، وكذلك المؤسسات الوقفيّة وما يتبع لها من جامعات ومدارس، والقنوات التلفزيونيّة التي يكون تمويلها من جهات عامّة؛ وكلّ هذه المؤسسات تندرج أموالها تحت مفهوم المال العام المخصوص لا المال الخاص.
فالغالبيّة العظمى من الجماعات والتنظيمات التي كانت سابقة في الوجود على ثورات الربيع العربيّ وما نتج بعدها من الجمعيّات والمؤسسات والأحزاب والتيارات والمراكز والقنوات التلفزيونية والمؤسسات الإعلاميّة والمؤسسات الشبابيّة والجهات السياسيّة ومؤسسات المجتمع المدني وكل ما كان تمويله من دولٍ أو متبرعين أو أوقاف؛ فإنّه أمواله تندرج تحت توصيف المال العام المخصوص.
ولئن كان المال الخاص يملكه فردٌ أو مجموعة أفراد؛ فهذه المؤسسات وما فيها من أموال مملوكة شرعًا لجميع من وضعت لخدمتهم ونفعهم؛ فهي أموال عامّة.
وفي المال الخاص يكون مالك المال أو من ينيبُه عنه هو صاحب الحق الشرعي في التصرف فيه، أمّا في هذه المؤسسات فالمتصرّف في المال لا يحمل صفة المالك على الإطلاق بل صفة النائب الذي ينوب عن المالكين وهم عموم المستفيدين أو من وضعت هذه المؤسسات لنفعهم وخدمتهم من العامّة.
وعليه فلا بدّ من بيان منهجيّات والضّوابط الشرعيّة التي وضعها الإسلام لتصرفات القائمين على هذه المؤسسات في أموالها بوصفها مالًا عامًّا مخصوصًا، وهو ما نبحثه ــ بإذن الله تعالى ــ في المقال المقبل.