نعم، إسطنبول هي مركز القوة الاقتصادية لتركيا، ونعم، إسطنبول أضحت عاصمة حركات المعارضة من مختلف البلاد العربية، لكن القرارات السياسية في تركيا يتم اتخاذها في أنقرة لا إسطنبول. إن التمركز الخاطئ لمراكز الفكر السورية والمؤسسات الإعلامية ومراكز البحث الاستراتيجية في إسطنبول قلل من كفاءتها وزاد في نفقاتها فالسوريون غير ممثلين تقريبا في أنقرة التي هي عاصمة تركيا.
بعد فرار أعداد كبيرة من السوريين إلى تركيا، اختار كثير منهم الاستقرار في إسطنبول حيث وفرت المدينة فرصا للأعمال الكبيرة وكذلك الوظائف. إن نمط الحياة الحضري بدا وبشكل نسبي أكثر ملاءمة للاجئين السوريين. فبحسب الأرقام الرسمية تستضيف إسطنبول 551 ألف لاجئ سوري بالإضافة إلى 720 ألف أجنبي يقيمون بموجب أذونات إقامة رسمية والكثير منهم أيضا من سوريا. وكما هو معلوم على نطاق واسع فإن عدد السوريين المقيمين في هذه المدينة وغير المسجلين هو أعلى من الأرقام الرسمية.
إن الفوائد والإشكاليات المتعلقة بالكثير من السوريين الذين يعيشون في إسطنبول - من منظور اقتصادي واجتماعي وسكاني - هو موضوع لمقال مختلف. المشكلة الأكبر حاليا هي أن السوريين غير ممثلين تقريبا في أنقرة. وباعتبار أنهم لا يتمتعون بأي حقوق تمثيل سياسي ولا يمكنهم التصويت لذا يبدو من غير الحكمة ألا يكون للمجتمع السوري وجود فعلي في أنقرة.
مفهوم "المعرفة الشخصية المسبقة" بين الأشخاص يلعب دورا كبيرا في صنع القرار السياسي، وخاصة عندما يتعلق الأمر بالسياسة الداخلية
تختلف السياسة التركية عن نظيراتها في الدول الأخرى، إذ تعتمد هذه السياسة وعمليات صنع القرار فيها على العلاقات الشخصية. أهم سلوك سياسي في تركيا هو زيارة الناس. فالعلاقات الشخصية على أرض الواقع تحدد المشهد السياسي في هذا البلد إلى حد بعيد. لذلك فإن أي ناظر في الشخصيات السياسية ذات المستوى المتوسط والمنخفض والمسؤولين رفيعي المستوى في الدولة سيدرك أن هناك تركيزا كبيرا على التعارف الشخصي. فمفهوم "المعرفة الشخصية المسبقة" بين الأشخاص يلعب دورا كبيرا في صنع القرار السياسي، وخاصة عندما يتعلق الأمر بالسياسة الداخلية.
لأجل إنجاز التعارف وبناء العلاقات المفيدة، لا بد من الحضور الشخصي، لسوء الحظ إن جهود الدعم الخاصة بالسوريين في أنقرة تكاد تكون منعدمة. المنظمة السورية الوحيدة الموجودة في أنقرة -التي أعرفها على الأقل- والتي تعمل لصالح السوريين هي "مركز الدراسات الاستراتيجية للدبلوماسية الإنسانية".
في السابق، كان الممثل الرسمي للشعب السوري "الائتلاف الوطني السوري" حاضرا في أنقرة وله مكتبه وتمثيله. لكن لسوء الحظ قرر الائتلاف إغلاق ذلك المكتب.
والواقع أن جميع المؤسسات السياسية ومراكز الفكر والبحوث والمؤسسات الإعلامية والمنظمات غير الحكومية السورية غير موجودة فعليا في أنقرة نتج عنه ظاهرة نفسية محددة. ذلك أنه بالنسبة للمسؤولين الأتراك فإن ممثلي السوريين ومفكريهم جميعهم ضيوف يأتون مؤقتا للزيارات من وقت لآخر. تعزز هذه الظاهرة الاعتقاد الخاطئ بأن السوريين مؤقتون في تركيا وأن ملف سوريا مؤقت أيضا.
وبما أن النخبة السورية لا تقيم في أنقرة، بل في إسطنبول، فليس للمسؤولين الأتراك علاقة يومية وشخصية دائمة مع المثقفين والسياسيين السوريين. الأمر لا يتوقف عند المسؤولين الأتراك، بل يتعداه إلى السياسيين الأتراك عموما. وغني عن القول إن الصحفيين الأتراك والنخبة التركية في قلب أنقرة ليس لديهم أي فرصة حقيقية لإنشاء علاقات شخصية ودائمة مع النخبة السورية.
التمركز في إسطنبول يرمز إلى أن الجمهور الرئيسي المستهدف من عمل هذه المؤسسات هو العالم العربي والجالية السورية، وليس تركيا والشعب التركي
لا تسيئوا فهمي! فأنا لا أدعو السوريين كأفراد وعائلات إلى الانتقال من إسطنبول إلى أنقرة. إنما أدعو المؤسسات السورية ومراكز البحوث ومراكز الفكر السوري إلى الانتقال من إسطنبول إلى أنقرة. فمن خلال القيام بذلك يمكن أن يكون للنخبة السورية تأثير حقيقي. إن التمركز في إسطنبول يرمز إلى أن الجمهور الرئيسي المستهدف من عمل هذه المؤسسات هو العالم العربي والجالية السورية، وليس تركيا والشعب التركي.
لفهمٍ أعمق لسوء التقدير هذا، نضرب مثلا: إنه إذا كان على أي من المنظمات السورية في إسطنبول الذهاب إلى بلد آخر، الولايات المتحدة أو ألمانيا أو فرنسا على سبيل المثال، فهل ستعمل هذه المنظمات في لوس أنجلوس وميونيخ وتولوز؟ أم سيتركز عملها في واشنطن وبرلين وباريس؟
فلماذا إذا نرى كل التنظيمات والنخب السورية موجودة في إسطنبول بدلا من أنقرة؟
إن الجواب على هذا السؤال يوضح أن النخبة السورية ما زالت لا تتبنى الواقع، بل تحيا في الماضي. من الأهمية بمكان بالنسبة للسوريين في تركيا وكذلك في سوريا أن تتقبل نخبتهم في تركيا الواقع. فتركيا لم تعد أي دولة، بل هي الدولة الأكثر أهمية بالنسبة للسوريين وسيكون للسوريين علاقة طويلة ودائمة مع تركيا والشعب التركي. لسوء الحظ، لم يتقبل الشعب التركي عموما الواقع حتى الآن، ويبدو أن النخبة السورية لم تتقبل هذا الواقع أيضا - باستثناء أولئك الموجودين بالفعل في أنقرة.
كما أن النخبة اليهودية تدافع عن إسرائيل في واشنطن، على النخبة السورية أن تدافع عن القضية السورية في أنقرة.