لا ينفصل التعليم عن سائر القطاعات التي ترزح في بلادنا العربية، تحت تداعياتِ الحروب والصراعات، وتحت نظُمِ حكمٍ، غيرِ مؤهَّلة، بما يكفي؛ لضمان رؤية تعليمية شاملة واستراتيجية، وذات استمرارية مُنتِجة. إذ تُقدِّم النُّظُم المستبدَّة، وذاتُ الطابع العسكري أولوياتٍ أخرى على التعليم.
وفي الفترة الأخيرة أضافت جائحةُ كورونا، وعلى مستوى العالم، وإنْ بتفاوت، (ليس لصالحنا، عربيًّا، بسبب سوء خدمة الإنترنت، أو انعدامها) تحدياتٍ جديدةً على مستوى التحصيل العلمي، إذ لم يُحرِز التعليمُ عن بُعْدٍ نتائج مُرْضِية، وألمَّتْ بالتلاميذ والطلابِ أضرارٌ تحتاج إلى برامج خاصة، واستدراكاتٍ ليس مِن المضمون نجاحُها في تعويضهم عمَّا خسروه.
فيما تعاني الدول المنهارة، اقتصاديًّا، أو التي على وشك الانهيار اختلالاتٍ تترك علاماتِ استفهامٍ كبرى على مصداقية شهاداتها الجامعيَّة، كما لو أنّ تلك الشهادات، الحقيقية، غير المزَوَّرة تحظى بتصنيف عالٍ، عالميًّا، إلا بما يبذله خرِّيجُوها مِن جهود ذاتية لاحقة، تقرِّبهم من المستوى المأمول، عالميًّا، ووَفْق متطلَّبات العصر.
وفي هذا السياق لا تزال فضيحة شهادات الماجستير والدكتوراه الممنوحة، رسميًّا، من جامعات لبنانية لطلَّاب عراقيِّين، طُبعت سنة 2021، موضع استخفافٍ رسميٍّ لبنانيّ، إذ لم تتقدّم إجراءاتُ التحقيق، ولم تُتَّخذ إجراءاتٌ بحقِّ تلك الجامعات التي لا تتوفَّر على الشروط الأكاديمية الأساسية، لمنع تكرار تزوير شهاداتها، والشهادات المزَوَّرة بعشرات الآلاف.
حين تنعدم، أو تكاد، الشروط الأساسية للحياة، كالطعام والمسكن والكساء، والعلاج، وما شابه، يكون التعليمُ مِن أولى الضحايا
حتى في العراق المَعْنيّ المباشر بهذه القضيّة -ووفق تقارير صحفية- تدخَّلت قوى نافذة؛ لمنْع اتِّخاذ إجراءاتٍ بشهادات العراقيين المشكوك فيها، ولوقف التوسّع في هذه القضية؛ لأن الكثير ممّن يحملون شهادات من جامعات لبنانية خالفت أبسط القواعد الأكاديمية، يتولَّوْنَ مسؤوليات حسّاسة ومهمّة في وزارات عراقية، ولا يمكن محاسبتهم.
وعلى أهمية التعليم، وحيوية دوره في إعداد الناشئة لخوض الحياة والمجتمع، إلا أنه حين تنعدم، أو تكاد، الشروط الأساسية للحياة، كالطعام والمسكن والكساء، والعلاج، وما شابه، يكون التعليمُ مِن أولى الضحايا، عندها يتمركز الأبناء حول أسرتهم المضطربة، وتُلقَى عليهم الأعباء الثقيلة. ويتفاوت هذا الاستقطاب إلى خارج متطلبات التعليم، بحسب درجة الاضطراب والحاجة، فعمالة الأطفال، على حساب التحصيل العلمي، ماثلة حتى في دول عربية غير واقعة تحت وطأة الحروب والنزاعات العسكرية.
ويمثل التعليم والمدرسة النظامية حجرَ أساس، وأداةً مهمة من أدوات الدولة، في صياغة الشخصية المتلائمة، ومفهوم الدولة للمواطن (الصالح)، برغم أن نجاحها في ذلك ليس مضمونًا، دائمًا، وتأثيرها ليس متفرِّدًا، ولا سيَّما في عصر تدفُّق المعلومات، وحتى قبل عصر الإنترنت لم يكن المجتمع يخلو من مصادر ثقافية وعلمية أخرى، كالأحزاب، والدِّين، ولكن تبقى للمفاهيم المدرسية سطوتُها؛ بمنهجيِّتها، وطريقة صُنْعها؛ بالبناء المباشر، من المعلِّم، والنظام المدرسي المتَّسم بالاستمرارية والتركيز، فضلًا عن كون الشهادة المدرسية جِسْرَ العبور للاندماج في المؤسَّسات اللاحقة؛ من الجامعة، إلى غير قليلٍ من الأعمال.
غير أن أهمَّ ما يُرْتَجى من التعليم ومؤسَّساته هو مُنتَجٌ تعليميٌّ يتمتَّع بالكفاية، والمعاصرة التنافُسية، وهذا ما نفتقده في معظم الدول العربية، بسبب ضآلة الميزانيات الممنوحة للتعليم، حتى وصل الأمر، كما في مناطق السلطة الفلسطينية إلى اعتماد "برنامج تبنِّي المدارس"، أطلقته وزارة التربية والتعليم، "ويستهدف تعظيم المساهمة المجتمعية في دعم التعليم؛ عبْرَ بناء المرافق المدرسية، وتأهيلها وصيانتها، والاستجابة لاحتياجاتها التطويرية المختلفة"؛ ليثور السؤال: أين تذهب الأموال التي تجنيها السلطة، تحت مسمَّى الضرائب، وضريبة المعارف؟ ولماذا هذا التنصُّل من مسؤوليتها، وإلقائها على الناس، فيما تستفرد الحكومةُ بالسياسات والقرارات؟
أمّا تردّي المستوى التعليمي والتعلُّمي، فيعود، غالبًا، إلى اعتماد أساليب غير متطوِّرة، تعتمد التلقين، أكثر مما تفعّل الروح النقدية والإبداعية، إلا في بعض الشكليَّات الملفَّقة، دونَ رؤية استراتيجية تتصف بالديمومة المُفْضِية إلى إحداث فرْق، فغالبًا يُلغي الوزيرُ الجديدُ ما استحدثه الوزيرُ السابق؛ من أساليب تغلب عليها الدعائية، في حين المطلوب قيام الدولة نفسها على خطةٍ جِدِّية، وطويلة الأمد، لا يطالها التغيير بتغيُّر الوزارات والحكومات.
أما في البلاد العربية التي تشهد حروبًا، ونزاعات، كما في اليمن وسوريا، مثلًا، فقد أصيب التعليم بضربات كادت تقوّضه، تمامًا، فإذا كان التعليم يعاني قبل تلك الحروب والنزاعات، فلَنا أن نتخيَّل حجمَ الأضرار المضافة، بعدها.
ففي اليمن، أصبحت أكثر من 2,500 مدرسة خارج الخدمة كليًّا، وقد أقفلت 27 في المئة منها أبوابَها، وتكبّدت 66 في المئة أضرارًا، واستُخدم 7 في المئة كملاجئ للنازحين، أو صادرتها الميليشيات لغاياتها الخاصة. وذلك وَفْق تقريرٍ صادر عن منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) في العام 2018. ووفقًا لتقرير صادر عن اليونيسف في شباط/فبراير 2021، يحتاج أكثر من 8 ملايين طفل يمنيّ إلى دعم تعليمي طارئ. فضلًا عن عدم تلقّي المعلِّمين في مناطق سيطرة الحوثيين رواتب، بشكل منتظَم، منذ حوالي أربع سنوات، مع تدخُّل وكالات الإغاثة الدولية، أحيانًا، لدفع رواتب لهم؛ ما اضطر كثيرون منهم إلى ترْك التعليم؛ بحثًا عن سبُل أخرى لتأمين احتياجات أُسَرهم.
أما في سوريا، (ووفقًا لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة- اليونسكو) حيث يحتاج تقريبًا 13.1 ملايين سوري إلى المساعدة، حاليًّا، ويُهَجَّر 6.1 ملايين منهم، داخل بلدهم، نصفُهم أطفال، يكافحون للبقاء على قيد الحياة، كما يلجأ أكثر من 5.5 مليون شخص إلى البلدان المجاورة، وثلثهم أطفالٌ وشبابٌ في سنِّ الذهاب إلى المدرسة، فإنّ الأضرار التعليمية والتعلُّمية غنيَّةٌ عن البيان.
اختلال الحياة السياسية والاجتماعية ينعكس، بالتأكيد، على البناء القِيَمي، ومنها قيمةُ العلم، في بلادٍ لا تتَّخذ من الكفاءةِ معيارًا للعمل والمشاركة، ولا حتى للاحترام والتقدير
ولا نعدَم في البلاد المحكومة بأنظمة مستبدّة يسيطر عليها العسكر، مؤشِّراتٍ على استمرار التردِّي التعليمي، ولعلَّ أجدَد تلك المؤشِّرات ما حدث في مصر، (وهي التي احتلَّت، عام 2016، المركز قبل الأخير عالميًّا، في مؤشِّر جودة التعليم)، إذ تبرَّأ وزير التربية والتعليم المصري، طارق شوقي، من مسؤولية وزارته عن تسمُّم مئات التلاميذ، في مدارس، بخمس محافظات، عقب تناولهم وجبات فاسدة، قائلًا: إنَّ "جهاز مشروعات الخدمة الوطنية (تابع للجيش)، هو المسؤول عن توريد الوجبات المدرسية".
هذا التردّي في التعليم الحكومي يدفع نحو جعْل التعليم الجيّد أكثر نخبوية، إذ لا يقدر على تكاليف المدارس الخاصَّة معظمُ الناس، وحيث ترتفع تكاليفُ الدراسة الجامعية.
وأخيرًا، فإنَّ اختلال الحياة السياسية والاجتماعية ينعكس، بالتأكيد، على البناء القِيَمي، ومنها قيمةُ العلم، في بلادٍ لا تتَّخذ من الكفاءةِ معيارًا للعمل والمشاركة، ولا حتى للاحترام والتقدير.