أصدر رأس النظام القانون رقم 29 لعام 2023 المتضمن تعديل الفقرات (د، و، ح) من قانون العقوبات وأصول المحاكمات العسكرية، وبحسب وكالة (سانا) فإن التعديل الحالي يقضي بمحاكمة المدنيين الذين تشملهم هذه المادة أمام القضاء الجزائي العادي بدلاً من القضاء العسكري إلاّ إذا كانت الجريمة ناشئة عن الوظيفة، الأمر الذي طرح استفسارات متعددة حول مدى جدية النظام في منع محاكمة المدنيين السوريين أمام القضاء العسكري، وفي مدى ضمان هذا التعديل لحق المدنيين السوريين في اللجوء إلى القضاء العادي.
الأصل عدم مشروعية محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري:
يتعارض إخضاع المدنيين لاختصاص القضاء العسكري تماماً مع طبيعة النظام القانوني العسكري، التي تفترض ألا يخضع لأحكامه إلا من يتمتع بالصفة العسكرية باعتباره وحده الذي يمكن أن يرتكب جرائم تنتهك النظام العسكري مثل مخالفة الأوامر العسكرية واستخدام السلاح بطريقة غير مشروعة.. إلخ.
وتكاد تجمع التشريعات على إخضاع طائفة معينة من المدنيين لاختصاص المحاكم العسكرية، ولكن خطتها تباينت في هذا الصدد. فضيّق بعضها من نطاق المدنيين الخاضعين لاختصاص هذه المحاكم لدرجة أنه منع محاكمة أي مدني مقيم داخل الدولة من الخضوع لاختصاص القضاء العسكري، في حين نجد أن بعضها الآخر وسعّ كثيراً من هذا النطاق.
طبقاً للقانون الإنكليزي، لا يخضع المدنيون داخل إنكلترا لاختصاص المحاكم العسكرية بأي شكل من الأشكال، أما خارج إنكلترا يخضع المدنيون المرافقون للجيش لاختصاص تلك المحاكم زمني السلم والحرب. كما استقر اجتهاد المحكمة العليا الأميركية على عدم جواز امتداد اختصاص المحاكم العسكرية إلى المدنيين. أما التشريعات العسكرية العربية، ومنها على سبيل المثال التشريعين السوري والمصري، فقد وسعا كثيراً من نطاق المدنيين الخاضعين لاختصاص القضاء العسكري.
توسع القانون السوري في نطاق محاكمة المدنيين السوريين أمام القضاء العسكري:
يعد القانون السوري من أكثر القوانين التي وسعت من نطاق حالات محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية؛ بموجب قانون العقوبات العسكرية السوري، وفي الأوقات العادية، يحاكم المدني أمام القضاء العسكري في الحالات الأربع التالية:
- المدني الذي يعتدي على العسكري (الفقرة ح من المادة 50).
- المساهمون في الجريمة إذا وجبت محاكمة أحدهم أمام المحاكم العسكرية (الفقرة ط من المادة 50).
- الجرائم التي يرتكبها المدنيون في المعسكرات والمؤسسات العسكرية والأماكن والأشياء التي يشغلها العسكريون لصالح الجيش والقوى المسلحة، كما حصل أثناء الثورة عندما كان جيش الأسد يشغل بعض البيوت والمؤسسات المدنية، فأية جريمة تقع في هذه الأماكن حتى ولو كانت من مدني ينظر بها أمام المحاكم العسكرية (الفقرة 2 من المادة 47).
- الجرائم التي ترتكب ضد مصالح الجيش والقوى المسلحة (الفقرة 3 من المادة 47).
بموجب هذه النصوص يصبح القضاء العسكري جهة القضاء الأصلية بدلاً من القضاء العادي في أية جريمة يكون المدني محتكا فيها بشخص عسكري أو بمكان عسكري أو بمحل عسكري، هذا التوسع الذي لا نجده حتى في القانون المصري الذي اشتق السوري منه غالبية النصوص، حيث أن هذا الأخير ضيق مع بداية الألفية الثالثة من نطاق محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية، كما فعل مثلاً في المادة 7 من قانون القضاء العسكري، حيث جعل وجود مساهم مدني واحد في الجريمة سبباً كافياً لنظرها أمام القضاء المدني.
ما هو التعديل الذي جاء به القانون الجديد رقم 29 لعام 2023 إذا؟
إذا استثنينا التعديل الذي جاء على الفقرتين "د، و" باعتبار أنه خاص بالعسكريين والعاملين المدنيين لدى وزارة الدفاع، حيث أصبح القضاء العسكري لا ينظر إلا في جرائم هذه الشريحة الناشئة عن الوظيفة فقط، بعد أن كان ينظر في جميع جرائم هاتين الشريحتين، حتى ولو لم يكن لها أية علاقة بوظائفهم، إذا استثنينا ذلك، نجد أن التعديل الخاص بمحاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري اقتصر على حالة واحدة فقط، وهي: حالة المدني الذي يعتدي على العسكري، حيث أن التعديل الأخير قصر محاكمة المدني أمام القضاء العسكري في حالة اعتدائه على شخص العسكري، بعد أن كانت تشمل كل الجرائم التي يرتكبها المدني ضد العسكري بما فيها تلك التي تقع على أمواله.
فعلياً، يكاد يكون التعديل الأخير الذي أجراه نظام الأسد ذا تأثير هامشي ومعدوم على نطاق محاكمة المدنيين السوريين أمام القضاء العسكري، حيث أنه وحتى بعد هذا التعديل، ما يزال المدني يحاكم أمام القضاء العسكري في أربع حالات: هي الجرائم الواقعة في أماكن عسكرية، والجرائم الواقعة على الأشياء والأموال العسكرية، والجرائم التي يكون فيها أحد المساهمين عسكرياً، والجرائم الواقعة على شخص العسكري، واستبعد النظام منها فقط الجريمة التي يرتكبها المدني على أموال العسكري فقط.
ما يزال نظام الأسد على سياسته في محاولة توظيف مختلف الأدوات التي يمتلكها بما فيها القانونية والتشريعية للإيحاء بقيامه بخطوات إصلاحية شكلية وهامشية، تكون عادة مصاحبة ببروغاندا إعلامية توحي بأنه يسير في طريق الإصلاح الذي يستحيل على نظام من طينة الأسد المضي به.