لم تكن المؤسسة التعليمية خارج منظومة الاستبداد الأسدية في سوريا، بل كانت إحدى أهم أدواته في صناعة سوريا الأسد (الدولة والمجتمع)، وكانت المناهج الدراسية الأداة الأبرز في استزراع القيم الأحادية الاستبدادية التي تكرس المطابقة بين الوطن وشخصية الرئيس الرمز الأسطورية الجامعة لكل الصفات الخارقة.
مما لا شك فيه أن هدف العملية التعليمية هو صناعة الإنسان اجتماعيًا وأخلاقيًا وتربويًا وسياسيًا وجماليًا، وتنهض المناهج الدراسية بجزء رئيس من هذه المهمة الراقية؛ لأنها تشكل حجر الزاوية في بناء العملية التعليمية ذات الأركان الأربعة: الطالب، الكتاب التعليمي، المعلم، الإدارة والبناء المدرسي. فالمناهج الدراسية تشكل الهوية الفكرية والاجتماعية والمعرفية والوطنية لمتعلميها، سواء أكان هذا المتعلم يعيش في ظل نظام ديمقراطي تكون فيه المناهج الدراسية منفتحة ومرنة تشجع على الإبداع والتفكير النقدي الحر، وتسعى لتخلق مواطنًا واعيًا وفاعلًا في حياته الفردية والاجتماعية والوطنية، أم كان هذا المتعلم خاضعًا لنظام استبدادي، تسعى فيه المناهج الدراسية المنغلقة إلى خلق الرعية أو قطيع الطائعين لكل أوامره الشريرة، كما هي الحال في "سوريا الأسد".
من تجديد الولاء إلى تأصيل الطاعة:
شكّل ثبات المناهج الدراسية واستمرار تدريسها لعشرات السنوات دون تغييرها انعكاسًا دقيقًا للطبيعة الديكتاتورية الثابتة التي تحاول تكريس سرديتها الأبدية في بقاء السلطة الأسدية إلى الأبد. وكما كانت السردية الأسدية متخلفة عن مواكبة تحولات العصر، كان تقادم المناهج الدراسية وتكلسها قد أبعد أجيالًا سوريةً عديدة عن الاطلاع على تطورات المعرفة الإنسانية ومواكبتها.
لم يخرج التغيير الشكلي للمناهج الدراسية عام 2010م عن تجديد الولاء للأسد الابن وتأكيده، دون أي تغيير يمس جوهر المناهج الدراسية التي تكرس التربية على الاستبداد. ولم تكن زيارة بشار الأسد للمركز الوطني لتطوير المناهج عام 2017م، في الوقت الذي كانت فيه المعارضة السورية على أطراف دمشق، وتدك مواقع النظام العسكرية، عفوية أو لقلة أشغاله كما ظن البعض، بل جاءت لمعرفة هذا المستبد بدور هذه المناهج وأهميتها في حربه على الشعب السوري منذ عام 2011م، إذ يقول في لقائه مع منسقي المواد في المركز الوطني لتطوير المناهج: "إن الحرب الحالية التي تُشنّ على سوريا هي في جزء كبير منها حرب فكرية، تستهدف العقول والمفاهيم والمبادئ، وتتطلب في المقابل تركيزًا وعملًا ملحًّا لتطوير المناهج التربوية السورية، لتكون قادرة على سد الثغرات التي كانت تعاني منها العملية التربوية منذ عقود، وتحصين الأجيال القادمة تجاه كل الممارسات والأفكار
لم تكن الإيديولوجيا الأسدية مبثوثة في عدد من المواد الدراسية كالتربية القومية والتاريخ واللغة العربية، بل إن بناء المناهج الدراسية كاملة قائم على تأصيل الديكتاتورية
السلبية التي ظهرت بوضوح خلال الأزمة الحالية"، وهو ما حاولت المناهج الدراسية الجديدة (عام 2017م) الاستجابة له، في الانتقال من تجديد الولاء إلى تأصيل أخلاق الطاعة من جديد في نفوس السوريين بعد أن خرج القسم الأكبر منهم على سلطته الدكتاتورية.
وإذا فرضت الظروف التغير الشكلي المتعدد على المناهج الدراسية في عهد الأسد الابن، فإنها لم تخرج على الإيديولوجيا الثابتة التي بنى من خلالها النظام (سوريا الأسد إلى الأبد)، ليس فقط في التأكيد الشكلي للوعي القومي، إنما أيضًا في الانتماء الوطني الذي يشكل حب القائد الرمز ركنًا أساسيًا فيه.
لم تكن الإيديولوجيا الأسدية مبثوثة في عدد من المواد الدراسية كالتربية القومية والتاريخ واللغة العربية، بل إن بناء المناهج الدراسية كاملة قائم على تأصيل الديكتاتورية، ليس فقط في صيغ فعل الأمر التي بنيت عليها كل الأسئلة المدرسية وامتحاناتها مثل: اقرأ، اكتب، افهم، اسمع، إنما أيضًا في بنية هذه المناهج القائمة على الحفظ والتكرار، التي تصنع من متعلميها ذاكرة إسفنجية مؤقتة لا يكون الفرد فيها فاعلًا في حاضر وطنه ومستقبله.
تراجيديا المناهج الدراسية عند المعارضة السورية:
على الرغم من القيم الإنسانية العليا التي نادت بها الثورة السورية منذ عام 2011م في العدالة والكرامة والحرية، إلا أن المنظومة التعليمية التي بنتها المعارضة السورية لم تكتفِ بعدم إنتاج مناهج دراسية تُمثل فيه قيم الثورة السورية في الحرية والعدالة، بل لم تخرج عن القيم الأسدية الاستبدادية في التعليم في اعتمادها المناهج الدراسية ذاتها، وما زالت تُغرس في أفئدة طلابنا حتى الآن، في كل المؤسسات التي أنشأتها في المخيمات السورية والمدراس المؤقتة في تركيا وصولًا إلى العملية التعليمية في كل المناطق الخارجة عن سيطرة النظام.
فلم تُجرِ المعارضة السورية من خلال أجهزتها التربوية أي تعديل جوهري على المناهج الدراسية، بل اكتُفِي بحذف مادة التربية القومية الاشتراكية، وبعض دروس مادة التاريخ، وكانت معظم التعديلات من مؤسسات المجتمع المدني الخيرية، مثل "جمعية شام الإسلامية" عام 2012- 2013م، التي اكتفت بحذف كل ما يتعلّق صراحة بأفكار البعث، واسم "حافظ الأسد، وابنه" وصورهما من الكتب الدراسية كلها.
ثم عدلت جمعية "علم" "الهيئة السورية للتربية والتعليم" عام 2013 – 2014. وفي عام 2015 - 2016م كان تعديل الحكومة المؤقتة يختلف عن تعديل المؤسستين المذكورتين، ويتجاوزهما في مواضع قليلة جدا لا تمس جوهر هذه المناهج.
أما في المناطق التي تسيطر عليها ما يسمى بقوات الحماية أو الإدارة الذاتية فقد غيرت المناهج الدراسية تغييرا كاملًا وجذريًّا للمراحل الدراسية كلها، واعتمدت الإدارة الذاتية في فرض فكرها وسياساتها للمناهج التعليمية على فلسفة عبد الله أوجلان الأبدية بديلًا عن الأبدية الأسدية.
والحق أن القيم التي تسعى الإدارة الذاتية إلى ترسيخها في التعليم ليست قيمًا وطنية جامعة للسوريين كما ينبغي للعملية التعليمية أن تكون، إنما هي قيم حزبية تحمل إيديولوجيا سياسية خارجية ضيقة لا تخدم إلا أصحابها.
أخيرًا، إن المناهج الدراسية السورية غير مؤهلة لتربية متعلمين فاعلين مؤثرين في حاضرهم ومستقبلهم، بل تخلق عبيدًا ورعية مستعدين لتدمير الوطن وحرقه وإسقاطه، من أجل بقاء سيد الوطن وعرينه الزائف. لذلك، لا بد أن تأخذ أي عمليةٍ لإعمار سوريا بجدية أهمية المناهج الدراسية السورية ودورها في صناعة حاضر سوريا ومستقبلها، التي لا تتحقق إلا بالانتقال من التربية على الاستبداد إلى التربية على المواطنة وحقوق الإنسان في الحرية والعدالة والكرامة، وهي القيم التي خرج من أجلها الشعب في ثورته على النظام الاستبدادي منذ عام 2011م حتى الآن.