في الحديث عن ملف انفجار مرفأ بيروت، يغرق اللبنانيون في التفاصيل القانونية. يدخلون في سجالات ولعبة تسجيل نقاط بين فريق داعم لقاضي التحقيق طارق البيطار، والفريق الآخر الرافض لنهجه في مسيرة "كشف الحقيقة".. وهو حالهم في التعطيل الحاصل بجميع المؤسسات الدستورية، ولا شيء جديد.
البيطار المكفوفة يده عن الملف بوساطة السلطة السياسية منذ أكثر من سنة، فاجأ اللبنانيين قبل أيام بـ "مطالعة قانونية" نسفت مسار التعطيل، وأعطى لنفسه هامشاً كبيراً من التحرّك، أعاد من خلالها تحريك المياه الراكدة.
بل أكثر من ذلك حدّد البيطار لائحة ادعاء بأسماء سياسيين وقضاة بمواعيد من أجل المثول أمامه، من بينهم مدعي عام التمييز القاضي غسان عويدات.. وتلك كانت القشة التي قصمت ظهر البعير وأوصلت الجسم القضائي اللبناني إلى ما وصل إليه من انقسام عامودي يصعب ترميمه اليوم.
لم يتحرّك البيطار لولا "جرعة دعم" حصل عليها من الوفد القضائي الفرنسي، الذي زار لبنان قبل أسابيع مع وفود من ألمانيا ولوكسمورغ
تحرّك البيطار بعد كل تلك المدة لم يأتِ من عبث. بل جاء بعد أن كبّلته السلطة السياسية المتهمة بالفساد والتقصير وربّما التستر عن المتفجرات، التي أودت بأبناء العاصمة ومرفأها في 4 أغسطس/آب 2020، الذي لم نعرف عن تفاصيله إلاّ من التسريبات الإعلامية. لم يتحرّك البيطار لولا "جرعة دعم" حصل عليها من الوفد القضائي الفرنسي، الذي زار لبنان قبل أسابيع مع وفود من ألمانيا ولوكسمورغ من أجل الاستماع إلى شهود في قضية حاكم مصرف لبنان رياض سلامة المتهم مع مجموعة من المصرفيين بتبييض الأموال واختلاس المال العام.
الخلط الفرنسي بين الملفين كان متعمّداً. كان يرمي إلى ممارسة ضغوط على السياسيين اللبنانيين بوساطة القضاء وعبر ملفي المرفأ ومصرف لبنان من أجل دفع "المعطّلين" إلى تقديم التنازلات، بدءاً بالملف الرئاسي ومروراً بالملف الحكومي، ووصولاً إلى الإصلاحات وخلافه..
تزامناً مع هذا التطور، كانت السفيرة الأميركية في بيروت دورثي شيا، تجول على الشخصيات اللبنانية وتضغط من أجل إطلاق سراح أحد الموقوفين في قضية المرفأ يحمل الجنسية الأميركية، وقيل إنها ألمحت لاحتمال فرض عقوبات على كل من يؤخر إطلاق سراح هذا الموظف، وهو رئيس مصلحة السلامة العامة في مرفأ بيروت المهندس محمد زياد عوف.
الحديث عن العقوبات، أحدث جلبة في وسط السلك القضائي اللبناني، وأطلق منافسة حول من يرضي الإدارة الأميركية التي تحركت بعد لجوء عائلة عوف إلى أعضاء في الكونغرس الأميركي. بعد ذلك تحرك الملف بسرعة البرق، فأطلق القاضي البيطار سراح 5 موقوفين لم يكن عوف من بينهم، لكن قيل إنّ إطلاق سراحه سيكون ضمن دفعة ثانية. إلا أن مدعي عام التمييز القاضي غسان عويدات استبق خطوة البيطار وأمر بإطلاق سراح جميع الموقوفين (17 موقوفاً)، وهو ما فُسّر على أنّه استبق لاسترضاء طموحات الغرب، وخصوصاً الإدارة الأميركية.
في محصلة كل هذه التطوّرات، ما يمكن استنتاجه هو التالي:
1. التدخلات الفرنسية والأميركية، نسفت السلك القضائي اللبناني، وأدخلته في حال شلل يستحيل الخروج منه قريباً.
2. تأخر القاضي طارق البيطار في إصدار قراره الظني، على الرغم من قوله إنه قد أنجز منه نحو 500 صفحة ولم يبقَ إلاّ القليل. لأنّ إصداره قبل كفّ يده منذ نحو 13 شهراً كان يمكن أن يعفيه: أولاً من كل تلك الضغوطات الداخلية والخارجية، وثانياً كان سيضمن وصول التحقيق إلى برّ الأمان، من خلال وضع جميع المتهمين، بمن فيهم السلطة السياسية أمام مسؤولياتها.
3. بعد عودة البيطار إلى العمل "ذاتياً"، أخطأ في إطلاق سراح بعض الموقوفين: إن كانوا فعلاً أبرياء فإنّ احتجازهم طوال هذه المدة يتحمّل هو مسؤولية توقيفهم، وإن كانوا مُدانين فإنّ خطوة إطلاق سراحهم لم تكن خطوة بمكانها الصحيح (يُسرب في الإعلام اللبناني أنه سيعاود تسطير مذكرات توقيف بحق بعض من أخلى سبيلهم على يدي مدعي عام التمييز).
4. أخطأ البيطار مرة أخرى حين ادعى على مدعي عام التمييز، لأنه بذلك فتح أكثر من جبهة ضده: جبهة مع السلطة السياسية الرافضة له أصلاً، وجبهة أخرى ضد المؤسسة القضائية التي يتبع إليها وكانت تقف على الحياد في نزاعه مع السلطة السياسية. كان البيطار بغنى عن هذا كله لو اكتفى بتضمين ادعاءاته في القرار الظني.
أظهرت واشنطن أنّ جلّ ما يهمها مصالحها، حتى لو كان ذلك على حساب سمعة القضاء اللبناني وحسن سير العمل فيه
5. أظهر القضاء اللبناني "حمية" ضعيفة جداً أمام التدخلات، ليس السياسية الداخلية فحسب، وإنّما أيضاً أمام الخارج، الذي أظهر تبايناً في المصالح والأولويات حيال ملف المرفأ الملف: ففيما تريد فرنسا ممارسة الضغوط على السلطة السياسية لحضّها على تقديم التنازلات في ملف رئاسة الجمهورية والإصلاحات، اكتفت الولايات المتحدة بمطلب إطلاق سراح أحد مواطنيها، ثم أبدت ارتياحها لموقف مدعي عام التمييز على حساب الوصول إلى الحقيقة من خلال التحقيقات.
6. أظهرت واشنطن أنّ جلّ ما يهمها مصالحها، حتى لو كان ذلك على حساب سمعة القضاء اللبناني وحسن سير العمل فيه، معتبرة أنّ التوقيف يدخل في إطار الاحتجاز القسري، لا بقضية كبرى صُنّفت على أنها أكبر انفجار غير نووي في العالم.
نفق جديد دخله لبنان، ولا يمكن التنبؤ كيف الخروج منه بأقل الأضرار، وسيزيد الأمور تعقيداً.