فيما عرف باسم "جمعة الكرامة" يوم 25 آذار "مارس" من عام 2011م كانت المظاهرة الأولى التي خرجت عقب صلاة الجمعة في الجامع الأمويّ بدمشق.
لهذه المظاهرة تحديدًا معانٍ غير عاديّة كونها خرجت في أهمّ معقلٍ دينيّ سوريّ؛ جامع بني أميّة الكبير، وهو يقع في قلب دمشق العاصمة ممّا يعني أنّ الثّورة السّوريّة تتفجّرُ بتسارعٍ في معقل النّظام الحصين، إضافةً إلى أنّ هذا الجامع يقف على منبره خطيبًا الدّكتور محمّد سعيد رمضان البوطي.
عقب نزول الدّكتور البوطي عن المنبر وقبل إقامة صلاة الجمعة علت الهتافات في داخل المسجد وفي صحنه الخارجيّ مناديةً بالحريّة ومتضامنةً مع درعا التي تشهد مواجهاتٍ داميةً بين المتظاهرين ورجال الأمن.
على عجلٍ تمّ إخراج الدكتور البوطي من المسجد وقد بدت عليه علامات الصدمة الممزوجة بالهلع ممّا يعاينه.
تداولت الصّفحات والقنوات الثّوريّة أنّ أجهزة الأمن هي مَن أخرج الدّكتور البوطي من المسجد حفاظًا على حياته، وذلك في إطار إثباتِ الثّوريّين تبعيّةَ البوطي الأمنيّة، غير أنّه تصدّى للردّ على هذه الأخبار عبر موقعه نسيم الشّام في معرض الإجابة الموجّهة لأحد السّائلين بتاريخ 4 تموز "يوليو" 2011م قائلًا:
"أمّا ما ذكرتَ من أنّ الأمن حماني من المتظاهرين في الجامع أو غيره، فإن النّاس كلّهم في سوريّا يعلمون أن هذا الأمر لم يقع قطّ، بل إنّني لا أعلم يومًا مرّ بحياتي أنقذني فيه "الأمن" من أي خطر، ولله الحمد".
-
التّصريح الأكثر إثارةً للجدل والسّخط الثّوريّ
بعد بضعة أيّام وفي يوم الأربعاء 30 آذار "مارس" 2011م ظهر الدّكتور البوطي في حلقة مشتركة بين الفضائيّة السوريّة الرّسميّة وقناة الدّنيا الفضائيّة التّابعة لرامي مخلوف أحد أذرع النّظام الاقتصاديّة، وتحدّث فيها عن هذه المظاهرة قائلًا ما نصّه:
"يريدون جعلَ المساجد لا أقول البؤرة بل المنطلق لهذا، أتأمّل في ـ لا أقول كلّهم ـ معظمهم؛ أنظرُ وإذا هم لا يعرفون شيئًا اسمه صلاة، جذع الواحد منهم لا يعرف الرّكوع، جبينُه لا يعرفُ السّجود أبدًا، لكنّهم قالوا: نعم ننقادُ للأوامر القادمة من الخارج لنجعلَ من المساجدِ منطلقًا، يعني لنستثمر المساجد ولنوظّف المساجد في هذا الأمر.
في يوم الجمعة الفائت في المسجد الاموي، بعدَ أن انتهينا من الصّلاة، كان الجوّ في داخل المسجد طبيعيًّا، خرجتُ من المسجد ولاح أمامي صحن المسجد الخارجي، وإذا بي أمام أناسٍ كانوا موجودين في باحة المسجد لكن لم يصلّوا، لم يكونوا مع المصلّين في الخارج، وإنّما كانوا ينتظرون السّاعة التي يلبّون بها الأوامر، نظرتُ؛ ليست وجوههم وجوه مصلّين، ليست مظاهرهم مظاهر إنسان يتعامل مع المساجد بشكلٍ من الأشكال.
هذه الظّاهرة رأيتُها؛ كيفَ أيّها السّادة والسيّدات يمكن أن أتجاوب باسم الإصلاح مع أناسٍ يصرّون على أن ــ يعني أستغفرُ الله؛ أنا مضطرّ أن أستعمل التّعبير الذي يعبّرُ عن حالهم لا عن شعوري أبدًا ــ يصرّون على أن ينتعلوا المسجد لمصلحتهم".
وفي اليوم التّالي أعاد الدّكتور البوطي التّوصيفات ذاتها في مقابلة مع الفضائيّة السوريّة مؤكّدًا على أنّ المساجد يتمّ امتطاؤها لتحقيق غايات المتآمرين على سوريا، وأعاد وصف "جباههم لا تعرف السجود" في وصف المتظاهرين، وعبارة "ينتعلون المساجد" في توصيفهم أيضًا.
كان هذا التّصريح إعلانًا مبكّرًا من الدّكتور البوطي يحسم فيه موقفه التّام باتّجاه تأييد النّظام ورفض الثّورة الشّعبيّة، وقد كان التّصريح هو الأكثر إحداثًا للصدّمة والسّخط في أوساط المتظاهرين السّوريّين، لما فيه من انحياز واضحٍ ضدّ ثورتِهم من جهةٍ ولاتّهامهم بأوصاف لم يتخيّلوا أن يتمّ وصفهم بها من أحد أكبر العلماء في سوريا، فهم "جباههم لا تعرف السّجود" وهم "ينتعلون المساجد" وهم "يمتطون المساجد تنفيذًا لأوامر مشغّليهم في الخارج".
وبالنّظر إلى هذا التّصريح المبكّر من الدّكتور البوطي نجد أنّه حاول من خلاله إيصال عدّة رسائل والتّأكيد عليها وهي:
أولًا: الثّورة مؤامرةٌ خارجيّة يتمّ تحريكها من قبل أعداء سوريا من أجهزة مخابرات ودول معادية، والمُحرّكون للمظاهرات هم مُشغّلون لحساب هذه الأجهزة المعادية بينما الكثير من المتظاهرين الذين ينساقون وراء هؤلاء هم من الجهلة المُغرّر بهم.
وهنا لا بدّ من التّذكير بأنّ النّظام كان ما يزال يستخدم وصف "المندسّين" في وصف المتظاهرين ولم يكن قد بدأ بعدُ بالحديث بشكلٍ فجّ تمامًا عن المؤامرة الخارجيّة، فيكون الدّكتور البوطي صاحب سبقٍ في توصيفِ المظاهرات بذلك بعد أسبوعٍ واحدٍ من انطلاقها في درعا وبعض المناطق المحدودة من دمشق وريفها وفي بانياس السّاحليّة.
ثانيًا: المتآمرون على سوريا والمشتغلون لحسابهم في تحريك المظاهرات لا علاقة لهم بالإسلام وهم ليسوا من الشريحة المتديّنة أصلًا، لكنّهم أصحاب أجندة تآمريّة تعملُ على توظيف المساجد لتشويه العمل الإسلاميّ وصورة الشريحة المتديّنة، وهذا جزء من المؤامرة على سوريا وشعبها.
ثالثًا: المصلّون في المساجد أناس طيّبون لا علاقة لهم بالمظاهرات والاحتجاجات ولكنّهم فريسة تغرير هؤلاء الحاقدين على الإسلام.
وبالنّظر إلى تصريح الدّكتور البوطي نجدُ أنّه تعمّدَ إخفاء الحقيقة وتغيير الوقائع وتزويرها لخدمة روايته وتأكيد قناعاته، ومن ذلك:
أولًا: قولُه: "في يوم الجمعة الفائت في المسجد الأموي، بعدَ أن انتهينا من الصّلاة، كان الجوّ في داخل المسجد طبيعيًّا" وهذا تزوير صارخ للواقعة، فالدّكتور البوطي أصلًا لم يصلّ صلاة الجمعة، وتمّ إخراجه من المسجد على عجل قبل إقامة الصّلاة فور تعالي التّكبيرات والهتافات داخل المسجد، والذي صلّى الجمعة أحد الشّباب الذين تقدّموا للصلاة وأنهاها على عجلٍ بسبب الهتافات المتعالية في المسجد.
ثانيًا: قولُه: " كان الجوّ في داخل المسجد طبيعيًّا" تزييف آخر للواقعة فكلّ الفيديوهات القادمة من جامع بني أميّة يوم الجمعة 25 آذار "مارس" عام 2011م تؤكّدُ أنّ الهتافات انطلقت من داخل المسجد من بين صفوف المصلين وانتشرت بسرعة إلى خارجه وليس العكس.
ثالثًا: قولُه: "أتأمّل في ـ لا أقول كلّهم ـ معظمهم؛ أنظرُ وإذا هم لا يعرفون شيئًا اسمه صلاة، جذع الواحد منهم لا يعرف الرّكوع، جبينُه لا يعرفُ السّجود أبدًا" أيضًا محاولةٌ للتّلبيس خدمةً للفكرة المُراد إيصالها، فلا أحد ينكر أنّ جميع المساجد كان يؤمّها غير المصلّين أيّام الثّورة ويقف بعضهم خارجها انتظارًا لخروج المظاهرات والمشاركة فيها، وهذا يدلّ على أنّ الكتلة الحرجة والغالبيّة في المظاهرات هي لهؤلاء المصلّين وليس كما أراد الدّكتور البوطي أن يوهم السّامعين أنّ "معظم" المتظاهرين هم من غير المصلّين.
-
محاولة تسويغ وتوضيح أم تراجعٌ تكتيكيّ؟
بعد موجة استنكارٍ واسعة، وتداول القنوات والمواقع المختلفة لهذا التّصريح، مع إرفاق التّصريح بصور المتظاهرين المصلين في مختلف الأنحاء وجد الدّكتور البوطي نفسه مضطرًا للتّعامل مع هذه الموجة الاستنكاريّة الواسعة.
في السادس من شهر أيار "مايو" عام 2011م أصدر الدّكتور البوطي بيانًا تحتَ عنوان "التبرّؤ من مونتاج لا أخلاقي" جاء فيه:
"لم أتّهم عامّة المتظاهرين المعارضين أو المؤيدين ــ لا في حديث مسموع ولا بيان مكتوب ــ بأنّ جباههم أو وجوههم لا تعرف الصلاة.
ولكني تحدّثت منذ خمسة أسابيع عن ثلّة من الشّباب كانت تنتظر خروج المصلّين يوم الجمعة من الجامع الأموي، دون أن يشاركوهم في الصّلاة، حتى إذا خرجوا اندسّوا في صفوفهم عند باب الجامع، وراحوا يعلنون هتافات المعارضة، وكان ذلك في أول أسبوع ظهرت فيه المسيرات.
أمّا المونتاج الذي تعمد إليه بعض القنوات والمواقع، لإقران حديثي ذاك، بجموع ومسيرات أخرى لا علم لي عنها ولا شأن لي بها، فهو عمل لا أخلاقيّ منبوذ".
وكذلك بعد قرابة أسبوعٍ من هذا البيان وتمامًا في يوم الثّاني عشر من شهر أيّار "مايو" من عام 2011م تعرّض الدّكتور البوطي مجدّدًا للأمر في درسه في جامع الإيمان بخليطٍ بين العاميّ والفصيح قائلًا:
"نحن الآن أيها الأخوة نرى شيئًا غريبًا عجيبًا، عصر المونتاج وعصر الغرف السوداء وعصور غريبة وعجيبة جدًا، صور لا أصل لها تركّب.
الآن وصل المونتاج لعندي، في أوّل أسبوع قامت به مسيرة كنت خطيب الأمويّ، أثناء الخروج من المسجد كان في ثلّة قليلة في مدخل المسجد من الداخل، أُناس لم يشتركوا في الصّلاة ولكنهم كانوا ينتظرون خروج المصلين ولما خرج المصلون اندسوا بينهم وبدؤوا بالهتاف، طبعًا أنا قلت عن هؤلاء الناس أن جباههم لا تعرف السّجود، كانوا ينتظرون في داخل المسجد ريثما يخرج المصلون، فيندمجوا فيهم، وكأن الكلّ يهتفون، ويأتي من يسقط كلامي هذا على كل المسيرات في كل المحافظات ويجعلني أتّهم كل الناس بأنّهم لا يصلّون، هذا مثال للمونتاج الذي يُختلق بواسطته شهادة زور، هذا شيء لا نرضى عنه ولا يرضى الله عز وجل عنه".
في قراءة سريعة لهذين التصريحين يمكن القول:
أولًا: خضع الدّكتور البوطي لموجة الاستنكار الواسعة وتراجع عن تصريحاته الأولى بطريقة دبلوماسيّة على الرّغم مما هو معروف عنه من عناده الشديد وعدم تغييره لرأيه ببساطة، وهذا يؤكّد أنّه كان يتابع بطريقة غير مباشرة عبر فريق موقعه الإلكترونيّ ــ الذي يشرف عليه حفيده محمود والذي كان ملازمًا له في كثيرٍ من الأوقات ــ كلّ ما يقال عن التصريحات ويتفاعل معها نفسيًا ممّا حمله على إصدار هذين التّصريحين اللذين فيهما تراجعٌ عن بعض التّوصيفات التي وصف بها المتظاهرين.
ثانيًا: حاول الدّكتور البوطي أن يظهر وكأنّه يوضّح أو يسوّغ تصريحاته السّابقة في وصف المصلّين، لكن مقارنة يسيرة بين التصريحات تؤكّد أنّه حاول التراجع التّكتيكيّ عنها، فبعد أن كان الحديث عن امتطاء المساجد وانتعالها عمومًا في الثّورة غدا الحديث عن واقعةِ الجامع الأمويّ دون غيرها وبعد أن كان التّوصيف يشمل "معظم" المتظاهرين في التصريحات الأولى أصبح عن "ثلّة قليلة" في التّصريحات الأخيرة.
كما بذل موقع نسيم الشّام جهدًا في نشر هذا التّوضيح من خلال إنتاج مقطع مرئي على منصّة يوتيوب ضمن "سلسلة فتبيّنوا" نقلوا فيه كلام الدّكتور البوطي الأوّل وتصريحه الأخير ودعموا ذلك بمقطع لجورج صبرة ــ أحد أبرز وجوه المعارضة السّوريّة ــ وهو يتحدّث فيه عن ابنه المحامي ومعه بعض أصدقائه حين توجّهوا إلى الجامع الأمويّ للمشاركة في تلكم المظاهرة.
وتضمين هذا المقطع هو محاولةٌ طفوليّةٌ لتسويغ التصريحات، فمن يعيد مشاهدة حلقتي الدّكتور البوطي على الفضائيّة السوريّة وقناة الدّنيا يجد أنّه يستهلّ كلامه بشكلٍ واضحٍ عن "المساجد وتوظيفها" وعن "المساجد وامتطائها" وعن "المساجد واستثمارها" من قبل المتآمرين ثمّ يسوق واقعةَ الجامع الأمويّ بوصفها مثالًا ونموذجًا على هذا الاستهداف لعموم المساجد.
لكنّ هذا لا ينفي أنّ الدّكتور البوطي تراجع عن تصريحه هذا تحت الضّغط الإعلاميّ في رغبةٍ منه أن يبدو متوازنًا نوعًا ما من خلال الحديث عن سلوكيّات الطّرفين وانتقاد كلّ من شبّيحة النّظام والثّائرين عليه، ومن ذلك الإجابة التي نشرت بتاريخ 4 حزيران "يونيو" 2011م جوابًا على سائل يقول:
"أتمنّى من حضرتكم أنو توصلوا صوتي إلى الشيخ البوطي، اسألوا الشيخ كيف رأى المتظاهرين "ينتعلون" المسجد؟ وأنكر عليهم؟ ولم يرَ "الشبيحة" ينتعلون رقاب الناس؟ وكيف دافع عن قادتهم؟ اسألوا شيخنا؛ أي الحرمات أعظم عند الله؟ حرمة بيت الله أم حرمة المؤمن؟"
واللافت أنّ الإجابة لم تأتِ مذيّلةً باسم الدّكتور البوطي كما هو المعتاد بل موقّعةً باسم ابنه الدّكتور محمّد توفيق، وهي وإن كانت كذلك غير أنّها لا يمكن نشرها إلّا بعرضها على الدّكتور البوطي وموافقته عليه فهي بالضّرورة تعبّرُ عنه وعن موقفه، فكانت الإجابة:
"إنّ الشّيخ البوطي لم يدافع يومًا ما عن الشّبيحة ولا عن قادتهم، وإنه إذ ينكر على أولئك ينكر على هؤلاء أيضًا.
كلّ ما في الأمر أنه يدعو الجميع إلى سدّ الذريعة الموصلة إلى سفك الدماء البريئة وفتح أبواب الفتنة، وهو حكم أعلن البيان الإلهي في القرآن عنه بنصّ صريح قاطع وأكده رسول الله في توجيهاته المحذرة عندما تندلع نيران الفتنة.
والشيخ البوطي يدعو الأطراف كلها اليوم إلى صدق التّوبة والإنابة، ودوام الالتجاء إلى الله أن يصرف الفتنة وأسبابها عن الأمة، وأسبابها معروفة".
غيرَ أنّ محاولة التّوازن الهشّ هذه لم تدم طويلًا فقد كانت الأمواج أشدّ عتوًّا مما قدّره الدّكتور البوطي، فتطوّرت مواقفه بشكلٍ متسارع.
وقبل البحث في التّطوّرات المتسارعة لمواقف الدّكتور البوطي فإنّه لا بدّ من الوقوف مع فتوى أثارت ضجّةً كبيرةً جدًّا وكانت لها ارتداداتها على عدة أصعدة وهي فتوى جواز الصّلاة على صورة بشّار الأسد، فما هي حقيقة هذه الفتوى وما خلفيّاتها وكيف تمّ التّعاطي معها؟ هذا ما نبحثه ــ بإذن الله تعالى ــ في المقال القادم.