بعيدا عن التعريف الكلاسيكي للديمقراطية والتي هي شكل من أشكال الحكم وتعني ببساطة (حكم الشعب) وجد العراقيون أنفسهم بعد الغزو الأميركي لبلادهم أمام مرحلة مليئة بالقتل والدم والخوف وأصوات الانفجارات الأرضية والجوية ومع ذلك قالوا عنها (تجربة ديمقراطية)!
وقد ذُكرت الديمقراطية مرارا في دستور العراق للعام 2005، وقد جاء في الباب الأول ضمن المبادئ الأساسية، المادة 1: "جمهورية العراق دولة اتحادية واحدة مستقلة ذات سيادة كاملة، نظام الحكم فيها جمهوري نيابي (برلماني) ديمقراطي".
في حين بينت المادة 2 أولا:
لا يجوز سن قانون يتعارض مع مبادئ الديمقراطية.
وقد كانت الديمقراطية واحدة من أكبر المقالب التي أقحمت بالترهيب والترغيب في مفاصل الحياة الرسمية والشعبية، المدنية والعسكرية العراقية!
ذكرت اللجنة الدولية للصليب الأحمر في الثاني من أيلول/ سبتمبر 2020 أن العراق يوجد فيه أحد أكبر أعداد الأشخاص المفقودين بالعالم، حيث قدرت أعداد المفقودين منذ عام 2016 - 2020 بين 250 ألفاً ومليون شخص!
لقد أسدل الستار عن الثمار الدموية للديمقراطية العراقية في مراحلها الأولى بعد الاحتلال رغم أن (حرب التحرير) سحقت خلال السنوات الأربع الأولى من الاحتلال أكثر من مليون مواطن، وأكثر من خمسة ملايين مهجر في الخارج وقرابة أربعة ملايين مهجر في الداخل، فضلا عن أكثر من مليون أرملة وخمسة ملايين يتيم، وغيرها من الخسائر البشرية والمادية!
وسبق لمركز استطلاعات الرأي (Opinion Research Business)، أن كشف حقيقة صادمة وهي أن خُمْس العوائل العراقية فقدت واحدا على الأقل من أفرادها خلال الفترة من آذار/ مارس2003 وحتى آب/ أغسطس 2007!
وذكرت اللجنة الدولية للصليب الأحمر في الثاني من أيلول/ سبتمبر 2020 أن العراق يوجد فيه أحد أكبر أعداد الأشخاص المفقودين بالعالم، حيث قدرت أعداد المفقودين منذ عام 2016 - 2020 بين 250 ألفاً ومليون شخص!
ولا أحد يعرف مقدار الفاتورة النهائية للقتل والتهجير والسحق في العراق للفترة من العام 2003 - 2022؟
وسنذكر هنا بعض الأدلة التي تؤكد زيف الديمقراطية المستوردة رغم مرور أكثر من 18 عاما على الاحتلال أو الديمقراطية!
وآخر الأدلة المؤلمة ما أعلنته بعثة الأمم المتحدة في العراق (يونامي) بداية حزيران/ يونيو 2022 من استمرار تقييد حرية التعبير في العراق، وأن بيئة الترهيب والخوف ما تزال قائمة، مع استمرار بطء إجراءات التحقيق في الانتهاكات والتجاوزات المتعلقة بملف حقوق الإنسان، وأن لجنة تقصي الحقائق (التابعة لحكومة مصطفى الكاظمي) في مقتل مئات المتظاهرين إبان احتجاجات تشرين الأول/ أكتوبر 2019، لم تسفر عن أي نتائج ولم تقدم معلومات عن عملها، وأن استمرار الإفلات من العقاب عن أعمال القتل والاختفاء والاختطاف والتعذيب للناشطين يقوض سلطة مؤسسات الدولة العراقية، وتم توثيق 32 حالة اغتيال لناشطين على يد جماعات مسلحة حتى منتصف أيار /مايو عام 2021، وأن 20 ناشطاً، مازالوا مختفين قسراً منذ انطلاق الاحتجاجات.
وهذا التقرير الخطير يأتي في مرحلة تطورت فيها فعاليات ملاحقة الصحفيين والإعلاميين بطرق ترهيبية قانونية وآخرهم الإعلامي سرمد الطائي الذي فُعّلت بحقه مذكرة قبض بسبب انتقاده لشخصيات (مهمة) في السلكين السياسي والقضائي في برنامج تلفزيوني على الفضائية الرسمية!
ومن هنا وجدنا أن العراق قد حلّ في المرتبة 172 من أصل 180 دولة بقضية (حرية الصحافة لعام 2022) وذلك في إطار التقرير الذي أصدرته منظمة "مراسلون بلا حدود" في الثالث من أيار/ مايو الماضي!
وكشفت مؤسسة "القمة"، العراقية المختصة بشؤون اللاجئين نهاية العام 2021، أن قرابة 53 ألف شخص هاجروا من العراق خلال العام 2021، ولقي 53 منهم حتفهم، وقد أعادت المؤسسة 36 ضحية إلى ذويهم!
وأن العام 2015 كان أبرز الأعوام الأخيرة من حيث أعداد اللاجئين للخارج وقد بلغوا 186 ألفا و422 شخصاً، 25 منهم توفوا، وفقد سبعة آخرون، وهذه المأساة برزت أيضا في العام 2016 حيث هاجر من العراق 160 ألفا و717 شخصاً، توفي منهم 78 شخصا و54 آخرين مفقودين، ومؤكد أن هذه الإحصائيات لا تشمل الهروب الجماعي من العراق في مرحلة ما بعد العام 2006.
وهذه الهجرة الجماعية ليست بسبب الإرهاب فقط بل بسبب الفقر، وفي 19/10/2021 أكدت تقرير للبنك الدولي أن الواقع العراقي مغاير لذلك، حيث يرزح نحو 40% من العراقيين تحت مستوى خط الفقر، من بين أكثر من 40 مليون نسمة.
وقد انعكس هذا الخراب الديمقراطي والاقتصادي على عموم المجتمع حيث ذكرت الجهات القضائية العراقية المختصة منتصف شباط/ فبراير 2022 أن عدد حالات الطلاق في البلاد خلال كانون الثاني/ يناير الماضي وصلت لنحو سبعة آلاف حالة طلاق، بواقع عشر حالات كل ساعة تقريبا، ونهاية العام 2020 ذكر وزير الداخلية العراقي عثمان الغانمي أن 50 بالمئة من شباب العراق يتعاطون المخدرات!
وفي عالم الطفولة ذكرت منظمة اليونيسيف التابعة للأمم المتحدة، في الخامس من نيسان/ أبريل 2022 عن تعرض 519 طفلًا عراقيًا للموت أو الإعاقة بسبب المخلفات الحربية خلال الخمس سنوات الماضية!
صرنا نلمس آثار الديمقراطية المزيفة في عموم الجوانب الإنسانية، المعنوية والمادية والتعليمية والصحية وذلك بسبب هشاشة السلطات العامة، والسلاح المنفلت
وتأكيداً لسياسة الخنق الواضحة في البلاد انتقد بعض الناشطين والمثقفين العراقيين في بيان لهم، يوم 5 من حزيران/ يونيو 2022 واقع حرية التعبير، وأكدوا أن حرية التعبير تشهد تراجعا ملحوظا، في ظل تزايد أوامر الاعتقال لناشطين وأدباء، وأن الخروقات المتزايدة في مجال حرية التعبير التي تمارسها أطراف بارزة في سلطات الدولة العامة تستهدف من ينتقدون الأداء العمومي، وهي "تستند غالباً إلى تبريرات من نحو (الإساءة لمؤسسات الدولة وإهانة القضاء والتطاول على الرموز) وغير ذلك، حيث تتم ملاحقات قضائية للأصوات الناقدة، واعتقالها واتهامها بالعمالة والتجسس، وإرعابها، وإلحاق الضرر بوظائفها وتهديد مصادر عيشها، الأمر الذي يضع البلاد في مسار سلطوي، يقود إلى عودة الدكتاتورية ومآسيها الكثيرة".
وهكذا صرنا نلمس آثار الديمقراطية المزيفة في عموم الجوانب الإنسانية، المعنوية والمادية والتعليمية والصحية وذلك بسبب هشاشة السلطات العامة، والسلاح المنفلت، والتناقضات الإدارية وفقدان الخدمات، والهدم لمؤسسات الدولة والنهب للثروات وكأننا في غابة مليئة بالمتسلطين الذين لا يمكن الاقتراب منهم فضلا عن محاسبتهم!
وبناء على واقع الحال المرير لا يعرف المواطن أين هي ثمار تلك الديمقراطية التي يتحدثون عنها، وهل هي في نفق تحت الأرض أم في برج مرتفع في أعلى البنايات؟
إن الديمقراطية منهج سياسي ينظم الحياة بين الحكومة والشعب (عبر البرلمان) وهذا البرلمان هو الرقيب على أداء الحكومة ويسعى لدفع الحكومات لتحقيق مصلحة الشعب فأين هذه الصورة المفترضة من الواقع العراقي المرير!
وكيف تنتعش الديمقراطية والسلاح المنفلت يرهب ويقتل ويهجر ويضيع من يختلف مع فلان وفلان؟ ولهذا لا يمكن أن تُطبق تلك الديمقراطية بالشعارات فقط بل هي بحاجة لتجربة عملية حية لتطبيقها وتحقيقها على أرض الواقع!
نأمل أن نرى الديمقراطية مطبقة في كل ميادين الحياة، ومنها السياسة والإعلام، وكذلك بتنفيذ سياسة قبول النقد والمعارضة، وهذا لا يكون إلا بالعمل الواضح العادل، وليس بالتطبيق المزاجي للديمقراطية وفقا لمزاجيات وأهواء فلان وفلان من السياسيين!
العراقيون يبحثون بين ركام المدن وفي أروقة المعتقلات ودروب الغربة عن الديمقراطية التي وعدوا بها، يا ترى أين هي تلك الديمقراطية؟