يعتبر بعضهم مفهوم الانكشارية قديما ومتعلقا بمرحلة عاشتها دولة الخلافة العثمانية، مثلما يقع كثير في خطل الاعتقاد بأن الاستعمار حقبة قد ولّت؛ بدلا من يقين كونها ذهنية استمرت ودأبت عليها الدول الوريثة للإمبراطورية الرومانية وبيزنطة، وما لفَّ لفيفها منذ الحروب الصليبية حتى الآن، لا يختلف الأمر سوى بالتسمية من المجال الإمبراطوري قديما؛ إلى التسمية الحديثة العهد تبعا لعصبة الأمم في اختراع مفهوم الاستعمار؛ لاستعباد شعوب المشرق وتحويلها إلى أدوات استهلاك وميدان تجربة وسوق استهلاكية، في حين ازدهرت تجارة الرقيق في الغرب مع الإمعان في تأسيس سوق للنخاسة في حواضر العالم المتلألئة بالأنوار وفلسفاتها.
تنافس العائلات المسيحية والمسلمة؛ في إلحاق أولادها بالانكشارية؛ ليتسنى لهم الفوز بالوظائف المرموقة في الدولة والقصر، عبر تخرجهم في مدارسها الإدارية أو القطع العسكرية التي مثلت نخبة العسكر
عملت الدولة العثمانية على إنشاء فرقة جيش جديدة سميت بالانكشارية، وتضاربت الآراء حول بنيتها المشكِّلة لها، فالمستشرقون اعتبروها اختطافا لأطفال المناطق المسيحية المفتوحة، في حين دُحِض ذاك الطرح من قبل باحثين كثر؛ لاعتبارهم الدولة العثمانية قامت بدافع إنساني دولتي لرعاية أيتام الحرب من نصارى المناطق الجديدة؛ بدلا من تركهم لقطاء ومتسولين، وتربيتهم وتعليمهم واستثمارهم في وظائف الدولة السلطانية والعسكرية، بل ذهب المستشرق الإنكليزي إدوارد كريسي لتوكيد هذا الطرح والتدليل عليه بالاستناد إلى تنافس العائلات المسيحية والمسلمة؛ في إلحاق أولادها بالانكشارية؛ ليتسنى لهم الفوز بالوظائف المرموقة في الدولة والقصر، عبر تخرجهم في مدارسها الإدارية أو القطع العسكرية التي مثلت نخبة العسكر، فتشكلت مؤسسة عسكرية وأخرى مرتبطة بالبلاط السلطاني لها نفوذها الذي اضطلعت به حتى تم تفكيكها عام 1826م.
بعد تفكك دولة الخلافة العثمانية وتناهب الغرب لهذه التركة تحولت المنطقة إلى مجال حيوي لشتى تجارب الاحتلال واستنفاد طاقات البلدان وتجنيد أبنائها قسرا لخوض حروب استعمارية في دول أخرى، فأخذت بريطانيا أبناء الهند المحتلة للقتال في مصر وأفريقيا، وأخذ أبناء القارة السمراء ليكونوا وقود حرب في حروب احتلال بمناطق أخرى، غير أن المساقين للتجنيد كأسرى ليحاربوا كعبيد كأنهم في حلبة مصارعة رومانية دأب قيصر روما لإشغال شعبه بها؛ لم يتمكنوا من فعل شيء سوى القتال أو الموت دون أن يشكلوا قوة ذات قيمة في دول تجيد استخدام أدواتها وترميها عند انتهائها وتتخذ من هويتها الأوروبية المتعالية مركزا حضاريا وإنسانيا لا ينازعها عليه أحد.
ولّى الاستعمار وبقيت ذهنيته حاضرة ومسلّما بها ولحق بها طيف بنى وأنساق ثقافية وسياسية تمتح من ترسيخ المركزية الغربية للعالم، وقد كتب فرانز فانون عن زنجي الحقل وزنجي المنزل، إبان ثورة الزنوج وحلل تماهي زنجي المنزل مع سيده حتى بات يمرض لمرضه ويدافع بشكل أعمى ضد ثورة تحقق إنسانيته، ثمة مقاربات كثيرة يمكن لكل منها أن تفيد في تحليل ما تم ترسيخه في الشرق الكولونيالي الجديد، منها تحويل تلك البلدان التي تحررت لنظام حديث من الإقطاع تتسلم قيادة عسكرية ما تلك المهمة ودليل ذلك قفزة الأنظمة العسكريتارية للحكم في معظم بلدان المشرق، للإجهاض على مشروع الدولة الوطنية ما بعد جلاء قوات المستعمر.
يتضح دور الانكشارية المشرقي بالإبقاء على اقتصاديات تلك الدول هشة وضعيفة وإشغال كل مجتمع بنزعات ما دون وطنية من طائفية ودينية وقبلية
غير أن مقاربة أخرى يمكن طرحها وهي الانكشارية الغربية التي لا تختلف عن الإقطاع سوى أنها بقيت خاوية الأيدي كضحايا التجنيد القسري في جيوش أوروبا إبان الحربين، ولم ترقَ لأن تتمثل بعضا من سيرة الانكشارية العثمانية التي كان لها فعلها وأثرها سلبا أو إيجابا، يتضح دور الانكشارية المشرقي بالإبقاء على اقتصاديات تلك الدول هشة وضعيفة وإشغال كل مجتمع بنزعات ما دون وطنية من طائفية ودينية وقبلية، والحرص على تعليم تلقيني بحيث يجد المبدع نفسه محاصرا ومضطرا للهجرة إلى غرب مفتوح كان قد هيّأ لمثله ما يسدّ حاجاته في صفقة مدغمة ليبدع هذا الأخير ويقدم كل ما لديه وليبقى الشرق متخلفا هشا، وتعبث به كل النزعات التي اشتغل على استيلادها وتثويرها، خصوصا أن ذلك يتفق مع ذهاب أوروبا لنقض الأخلاق نفسها وتحويلها إلى نصوص قانونية وتوثين الحرية الفردية عبر طرح موت الإله، ما يعني حربا أخلاقية ممن لا أخلاق لديه، على من يملك ذخيرة أخلاقية تحمله على الصمود والمقاومة لهذا النهج المتلفع بالحداثة والباغي بتسليع الفرد وتحويله إلى روبوت متحكم به عبر إعلام محكم التدبير وسياسات اقتصادية مدروسة ودراسات تهدف إلى صناعة الرغبة كما تحدث عنها نعوم تشومسكي، وهو ما دفع بكثير من مثقفي هذا الشرق إلى انتهاج ثقافوية ساقطة علميا في رد كل مشكلات الشرق إلى البنى الاجتماعية والدين، في حين لا حكم عادل في تلك البلدان المحكومة من انكشاريي الغرب ولا برجوازية مستقلة يمكنها النهوض، وإذا ما نظرَ الدارس إلى المجتمعات الغربية نفسها وجدَ غيابَ المنظومة الأخلاقية وغيابَ مفهوم الحق والباطل واختزاله بنصوص قانونية واختفاء مفهوم الرادع الأخلاقي الذي بنيت عليه الحضارة أو بنته البشرية وتحاول الحداثة السائلة وفقا لـ"زيغموند باومان" أن تجعل الثقافة سائلة والحياة سائلة.
هنا يتحول الفرد الذي ألَّهه الغرب تحت مسمّى الحرية الفردية إلى أُسٍّ للحداثة سائلٍ رجراجٍ يتغيّر بحسب الوعاء الذي يصنعه النسق الممسك بحكومة عالمية، تحكم الثقافة والاقتصاد والسياسة وتحوّل الفرد الأوروبي نفسه إلى نكرة منغمسة بالرغبة والمتعة وهاربة من التساؤل في أنها جزء من مجتمع انكشاري لا يقوى على خوض حراك مجتمعي يفرز نخبا تضطلع بدور حضاري، والحال هذه يظهر الشرق كندٍّ عنيد قيميا وأخلاقيا وهو ما يضعنا أمام سؤال الشعوب التي تثور على حكامها وتعتقد مؤازرة من نظام دولي، في حين أنها في كل ثوراتها تقوم بثورة على منظومة متكاملة لتغدو أي ثورة يخوضها شعب هي ثورة قيمية تخوضها شعوب مقهورة ضد حضارة تتلفع بالحداثة وتنعت بالبربرية كل ندّ لها، مع ضرورة القبول والتسليم بضرورة دخولها الحداثة من باب خصوصياتها وسياقاتها المحلية.