في صباح يوم ماطر في مدينتي بألمانيا، رن جرس المنزل فإذا بعامل إصلاح النوافذ على الباب لمعالجة عطل فيها، فطلبت منه بلطف أن يخلع حذاءه عند الباب ويتفضل لإنجاز عمله ففعل، وانتهى وقت عمله بشرب فنجان من القهوة السورية وثنائه عليها ثم غادر، في أوقات أخرى سألني كثير من الضيوف الألمان عن شكل تصرفهم من عتبة الدخول حتى عتبة الخروج فصاروا أكثر معرفة بثقافتنا، وحصل أكثر من مرة أن حاول الضيوف بكل بساطة أن يأكلوا بأيديهم على مائدة المنسف العربي التي طلبوها خصيصا ليتعلموا منا الطريقة واحتفوا بذلك، قبالة ذلك تعالى كثير ممن حازوا إعجابا من ألمان آخرين وعلقوا على تلك الثقافة برمتها، وادعوا تخلف كل ما يمت لعاداتنا في الصداقات والتواصل والضيافة بعيدا عن المناسف وطرق الطعام، وكأن هذا العالم لن يقبلك إلا إذا كنت مقلدا بكل ما للمقلد من تكلف وتصنع وادعاء؛ ما يحيلنا إلى سؤال الاندماج الذي تتناسل عنه شجرة من الأسئلة.
تتلخص الرؤية الأوروبية الرسمية في بلدان اللجوء في جملة المطالب التي يجب على اللاجئ تحقيقها؛ سعيا لدخوله سوق العمل والحياة؛ وهي تعلم اللغة، واحترام القوانين، والدخول في سوق العمل
تنشط العديد من الصحف الناطقة بالعربية، ومراكز بحثية في دراسة اندماج السوريين في المجتمعات الأوروبية الحديثة، لدراسة مدى تأقلم المهاجرين السوريين مع الوسط الجديد، ومدى قدرتهم على التغير تبعا لقيم المجتمعات الجديدة. غير أنه وقبل مساءلة اللاجئ لا بد من مساءلة الاندماج نفسه وطارحيه، إذ لا بد من تعريف الاندماج أولا ليتم قياس مدى تحققه، وقياس مفاهيم ورؤى الاندماج في مستوى تطابقها أو تناقضها مع مفاهيم ومبادئ وحقوق عدة منها: العودة للوطن أو الارتباط به كوطن أم يشكل جزءا من الهوية؛ ويُعتبر الانتماء إليه والحلم ببنائه حقا مشروعا وواجبا مشتقا أو مبنيا على الوطنية والشعور الوطني؛ وافتراض تبنّي هموم الوطن وقضاياه التي تشغل كل من يدعي حمل شعور إنساني وضمير وجداني، سواء كان ذلك الشعور مشتقا من مبادئ التزامه الأخلاقي والإنساني وحب الوطن، أو مشتقا من مفاهيم عامة بنزعة إنسانية من أنصار حقوق الإنسان العالمية، تلك التي حددت حقوق اللاجئين في الأوطان المضيفة وحق ارتباطهم بثقافاتهم الخاصة وأديانهم وتقاليدهم والتعبير المدني عنها.
تتلخص الرؤية الأوروبية الرسمية في بلدان اللجوء في جملة المطالب التي يجب على اللاجئ تحقيقها؛ سعيا لدخوله سوق العمل والحياة؛ وهي تعلم اللغة، واحترام القوانين، والدخول في سوق العمل؛ للاشتراك في فعاليات الحياة، وعدم البقاء عالة على الدولة المضيفة، وهي مطالب محقة أساسية وضرورية للسكن في أي بلد حتى لو كان مشرقيا أو عربيا، غير أن رؤية أخرى مطروحة من قبل مثقفين وكتاب وباحثين تقول بضرورة انتقال اللاجئ من حالة الخضوع للقوانين الخاصة بالبلد وتعلم لغته والعمل به؛ إلى ضرورة تبني مفاهيم وثقافات هذا البلد -وإن خالفت معتقداته- مع أن أوروبا وقوانينها تتيح للفرد حرية الدين والثقافة والتعبير، لنجد أنا أمام رؤية أوروبية وأخرى تدلل البلدان المضيفة على ضرورة رفع سقف طموحاتها في إخضاع اللاجئ لرؤيتها حول الاندماج الكلي -الانسلاخ الكلي- المتصفة في أحسن صورها بالطوباوية والنخبوية واختصت بها نخبنا العربية غالبا.
هل يتضمن الاندماج بالضرورة قيمة إيجابية؟ ومن وجهة نظر أي من الأطراف نحدد موقفنا منه؟ وعلينا أيضا أن نحدد هذه الأطراف هل هي الحكومات الأوروبية من جهة المرتهنة ليمينها أو متحررة منه، والطرف الآخر هل هم اللاجئون أنفسهم بعد اصطدامهم بصعوبات الاندماج وعجزهم عن اللغة والعمل أو المتكاسلون عن كل التزام ويرغبون بالعيش عالة على المجتمعات المضيفة( وبالطبع لن نهتم بهؤلاء ولا بموقفهم)، أم طرف متعال ومتخم بترف المعرفة ويريد التنظير على ضرورة تحقيق الاندماج بما هو اندغام لكل الهويات المشرقية لصالح هوية أوروبية وعولمية ويقفز هذا الطرف تماما على حق / واجب العودة للوطن الأم وقيمته، ويقفز على رغبات الكثير من المهاجرين ليس بدافع الحنين؛ بل بدافع رغبة بناء وطن حريات وعدالة بعد إزاحة حكم الأسد.
أغلب السوريين قبل وفودهم لأوروبا قد عاشوا متعايشين ومتعاونين في ظروف الاختلاف العرقي والديني والمذهبي قبل مرحلة الاستعمار وبعدها
وبعيدا عن موقع الطرف الثاني وهو ثقافي بحت وربما أكاديمي أيضا ومواقع استقراره المعيشي والتي قد تكون خارج أوروبا لكنها تبدو ذهنية مهاجرة ومتلبسة وتطرح رؤية كلية شمولية تقترن بجزء بسيط مما يشغل الحكومات الأوروبية ويقارب أخص ما يمكن أن تفكر فيه الحكومات الأوروبية ولا توليه اهتماما إلا لدى دوائرها الأمنية وهو الهاجس الأمني والتفكير في الإرهاب، بينما يغيب هذا الهاجس ثقافيا وسياسيا لدى الحكومات غير اليمينية، ويحمل الطرف الثاني في حديثنا رؤية تكاد تنطبق عليها نظرية أرنولد تونبي التحدي والاستجابة التي تقول بضرورة تقليد الآخر الأقوى في كل شيء، إذ لا يذهب الطرح نحو حقوق وتبادل ثقافات وتنوير؛ بقدر ما هو محاولة إلغاء لهوية وثقافة كل مهاجر؛ رغم أن المهاجر لو تلبس وادعى، أو كان ملكيا أكثر من الملك لبقي في نظر المتطرف الأوروبي شرقيا مسلما أو إرهابيا غازيا على طريقة بخيل بغداد في سردية الطرائف القديمة، والتي رد على ضيفه الذي رمى عمامته جانبا ليتعرفه فرد البخيل "لو خلعت جلدك ماعرفتك" وكذلك لو خلع اللاجئ جلده لأنكره ضحايا اليمين الأوروبي وضحايا الرؤية المركزية الأوروبية التي لا ترى إلا أناها، ناهيك عن أن تلك الرؤية غاب عنها أهم مفهوم تدعيه أو تحمله وهو العودة للوطن وأن ذاك الطرح يحيل إلى ضرورة اعتبار أن كل من هاجر قد خسر الوطن الأم وخسره وطنه إلى غير رجعة.
وفي عودة لعالم اللاجئين أنفسهم نجد أن أغلب السوريين قبل وفودهم لأوروبا قد عاشوا متعايشين ومتعاونين في ظروف الاختلاف العرقي والديني والمذهبي قبل مرحلة الاستعمار وبعدها، كما أن اللاجئ السوري قد اندمج في مجتمعات تخالف عاداته كالمجتمعات العربية الأخرى في الخليج وغير العربية كتركيا، ولعل أوروبا تبدو هنا شكلا أكثر حدية لكنها بالمقابل لم تطلب شكلا من الاندماج يتجاوز قدرة اللاجئ على اللغة والعمل واحترام القوانين، اللهم إلا في مستوى تلك الندية لدى أحزاب اليمين ضد المسلمين أو المهاجرين عامة التي تقع ضمن حيز التحزب الديني لدى اليمين، أو كشكل من أشكال المركزية الأوروبية والتعامل مع الآخر بعيدا عن ثقافته ودينه وعاداته وقيمه.
وفي جانب آخر لم نجد في شتى الديمقراطيات الأوروبية إشكالية في التأمل مع الأتراك أصحاب الوجود القديم قليلا والظاهر في طابعه وخصوصيته، فالمجتمع التركي في أوروبا هو أكثر ما يمكن أن يكون مطابقا لمقولة المجتمع الموازي حيث العلاقات والطبائع والعادات والتشابكات الكثيرة إضافة لنزعة الانتماء لتركيا وللقومية التركية والوطن التركي، ووجود جمعيات تنشط في ذلك على جمع العائلات التركية والأطفال دون ظهور الهاجس من الاندماج لدى ترك آخرين أو لدى الدوائر الأوروبية عنهم – خارج أطر مواقف اليمين الأوروبي- أمام ذلك يحق لنا السؤال لم هذا التنظير المتناقض المفرط المشبع بالوطنية نظريا والمؤسس لتفتيت رصيدها عمليا عبر طروح الاندغام الكلي في المجتمع المضيف؟
بل وتذهب بعض الآراء إلى ضرورة تبني واحترام حقوق الشواذ مثلا تلك الممارسة الخاصة التي لا تحتاج رأيا وموقفا في الشارع، فهل على اللاجئ أن يحمل علم الشواذ ويروج لها؟ أم أن له الحق في ألا يكون مسوقا؟ تلك معضلة موقف أيديولوجي لدى نخبة تطرح كل ما يستفز جذور ثقافة اللاجئ وملاحقة آخر حصونها، أما في مستوى التخوف الكاذب من الرد على تلك الشواذ فإن أكثر المسلمين التزاما في أوروبا لا يحمل حكما بالقتل على الشواذ ولا التطرق له، سواء لجهة القوانين السائدة، أو لجهة مجتمعاتنا الشرقية التي لم تشهد قتل هؤلاء، ولا موقفا عسفيا يستخدم القوة خارج أحكام القضاء القانوني في البلدان العربية الأم، إذن فلم إعلاء هذا الحد وجعله مقياسا حديا ومعيارا للاندماج وقبول ثقافة الآخر وتبنيها؟ ولم تثبيت العودة كحق وعدم الاعتراف به كواجب وطني ينقض رؤية الاندماج الكلي السالفة؟ هل هو سؤال الهوية الملتبسة بتحولاتها فانفرط عقالها؟ أم سؤال الأيديولوجيا؟
ذاك برسم الجميع.