الانتخابات من الناحية السياسية تحتاج إلى بيئة آمنة حيادية تنافسية لإجرائها، لكنها من الناحية القانونية تحتاج إلى قاعدة تنظمها، وتضبطها من بدايتها إلى نهايتها، والحالة السياسية والقانونية متكاملة، وإن كان تحليلنا ينصبُّ على النص الدستوري الناظم للانتخابات الرئاسية في سوريا، وما نزال نبحث عن جواب لسؤالنا: ماذا لو لم يتم إجراء الانتخابات في موعدها؟
بعضهم يرى في حال عدم إجراء الانتخابات في موعدها أن الدستور السوري يجيز استمرارية من يشغل موقع الرئاسة الحالي، استنادًا إلى المادة (114) التي تنصُّ على ما يلي: "إذا قام خطرٌ جسيم وحالٌ يهدد الوحدة الوطنية أو سلامة واستقلال أرض الوطن، أو يعوق مؤسسات الدولة عن مباشرة مهامها الدستورية، لرئيس الجمهورية أن يتخذ الإجراءات السريعة التي تقتضيها هذه الظروف لمواجهة الخطر."
واستمراريته مردها لديهم إلى أن النص "لم يُحدّد ما هي الإجراءات السريعة عند قيام حالة من الحالات التي وردت في المادة السابقة".
ولأننا لا نرى هذه المادة تجيز الاستمرارية في موقع الرئاسة حتى لو تعمد إعلانها، وجب علينا البحث عن جذر المادة التاريخي، وأهم تطبيقاتها في دول أخرى، حتى تتضح الصورة.
هذه المادة أوجدها أول مرة (شارل ديغول) عند وضعه دستور الجمهورية الفرنسية الخامسة، ويذهب الفقه الفرنسي في جملته إلى أن هذه المادة ترجع أساسًا إلى إرادة ديغول ورغبته أن يتضمن الدستور مثل هذا النص، رغم المعارضة العنيفة، وغايته تقوية موقع الرئاسة بإعطائه مزيدًا من السلطات الاستثنائية لمواجهة الظروف الاستثنائية، فقد دافع ديغول عن مشروع المادة أمام اللجنة الدستورية بتاريخ 8 /8/1958 مشيرًا إلى أن الأزمات التي مرَّت بها فرنسا في بداية الحرب العالمية الثانية، وما حدث من فوضى دستورية، وكذلك أزمة مايو 1958 التي أطاحت بالجمهورية الفرنسية الرابعة، وأسباب سقوط الجمهورية الفرنسية الرابعة أمام النازية نتيجة عدم امتلاك الرئيس لسلطات استثنائية لمواجهة الغزو، كل ذلك دعاه إلى النص على تلك السلطات لأول مرة في التاريخ في نصّ المادة (16) من دستور فرنسا لعام 1958.
هل يملك رئيس الجمهورية إذا ما أعلن السلطات الاستثنائية سلطة تعطيل مواد من الدستور؟
وقد انتشرت هذه المادة من فرنسا إلى الدول التي تأثرت بدستورها، ومنها دستور تونس عام 1959 بالفصل 46، والدستور المصري لعام 1971 في المادة 74، التي تنص على ما يلي: "لرئيس الجمهورية إذا قام خطر جسيم وحالٌ يهدد الوحدة الوطنية أو سلامة الوطن أو يعوق مؤسسات الدولة عن أداء دورها الدستوري أن يتخذ الإجراءات السريعة لمواجهة هذا الخطر بعد أخذ رأي رئيس مجلس الوزراء ورئيسي مجلسي الشعب والشورى، ويوجه بيانًا إلى الشعب، ويجري الاستفتاء على ما اتخذه من إجراءات خلال ستين يومًا من اتخاذها، ولا يجوز حل مجلسي الشعب والشورى في أثناء ممارسة هذه السلطات."
والتساؤل الأكثر إلحاحًا هنا: هل يملك رئيس الجمهورية إذا ما أعلن السلطات الاستثنائية سلطة تعطيل مواد من الدستور؟ ومنها المواد المتعلقة بإجراء الانتخابات عند انتهاء ولايته.
إن صياغة النص في الدستور السوري يقترب ويتماثل مع النص المصري في دستور 1971 أكثر من النص الفرنسي وإن كان الفرنسي هو الأصل.
لذلك ننقل رأي الفقه المصري بهذه المسألة، وعلى رأسهم الدكتور (يحيى الجمل، ووجدي ثابت غابريال)، والخلاصة "أننا لا نقر تمتع رئيس الجمهورية بسلطة مخالفة أحكام الدستور على أي وجه كانت المخالفة أو المساس بها؛ لأن الدستور يجب أن يظل في جميع الظروف هو المعيار الوحيد لقياس مشروعية أعمال الإدارة، سواء الصادرة عنها في الظروف العادية أو في الظروف الاستثنائية، وإن سلطة المساس بالدستور على أي وجه لا يمكن ممارستها؛ لأن أحكام الدستور لا يمكن أن ينتهي أعمال بعضها إلى المساس بالبعض الآخر."
كما أن المادة (96) نصَّت على أن "يسهر رئيس الجمهورية على احترام الدستور والسير المنتظم للسلطات العامة وحماية الوحدة الوطنية وبقاء الدولة". وهي تفرض على رئيس الجمهورية السهر على حماية الدستور، ممَّا لا يجوز معه في أي ظرف أن يتجه إلى إيقاف العمل به أو تعطيل بعض أحكامه.
كما أن الغاية من الإجراءات السريعة الواردة في متن المادة (114) هي عودة دواليب سير السلطات العامة منتظمة وفق أحكام الدستور، بحيث تعود المؤسسات الدستورية إلى مباشرة تلك الوظائف في أقصر مدة ممكنة، وبناءً عليه فإن تعطيل الدستور أو بعض أحكامه يتعارض مع غاية المشرع الدستوري.
والتطبيق العملي يؤكد عدم تعطيل مواد من الدستور في أثناء تطبيق هذه المادة، فقد تم اللجوء إليها في فرنسا من قبل ديغول نفسه في 23/4/1961، وفي مصر أُعلن عن تطبيقها في مساء يوم 2 فبراير 1977 إثر مظاهرات 18 و19 يناير 1979، وطبِّقت ثانية في الثالث من سبتمبر 1981، إثر حدوث صدام بين المسلمين والمسيحيين، وأدى ذلك الصدام إلى قتل بعض الأفراد من الجانبين والاعتداء على دور العبادة، ورغم عدم استيفائها شروط إعلانها في الحالات الثلاث، وحدوث تجاوزات في التطبيق من قبل السلطة التنفيذية، إلا أنه لم يسجل في الحالات الثلاث تعطيل لمواد الدستور.
أما في سوريا فلم يتم اللجوء إلى تطبيق المادة ولا مرة، رغم وجودها لمدة تزيد على النصف قرن، فهي موجودة في دستور 1973 وبقيت في دستور 2012، وبالرغم من الكثير من الحوادث الاستثنائية إلا أن السلطات لم تلجأ إليها مطلقًا، وذلك ناتج عن وجود بدائل دستورية أخرى تعطي السلطة التنفيذية سلطات استثنائية تساعدها على تجاوز الظروف الطارئة، لذلك لم تحتجها السلطة منذ وضعها إلى الآن.
وهكذا نرى أن سلطات المادة (114) لا تستطيع أن تؤثر في الدستور إيقافًا أو تعديلاً أو إلغاءً، ويبقى الدستور هو المرجع في كل الأحوال الاستثنائية والعادية.
الدساتير مثل الإنسان إذا اشتد الظلم عليها صرخت في وجه جلاديها
في ظل تفسيرنا السابق الذي نراه بأن مواد الدستور لا تجيز البقاء لرئيس الجمهورية في حال عدم إجراء الانتخابات في موعدها، يبقى السؤال مفتوحًا: ما الإجراءات الدستورية الواجب اتباعها عند عدم إجراء الانتخابات؟ ومن الذي يشغل موقع الرئاسة؟
كما ذكرنا من يشغل موقع الرئاسة الآن لا يستطيع البقاء بها دستوريًا إلا بإجراء انتخابات جديدة، وإذا لم تجرِ الانتخابات يجب عليه مغادرة الموقع، ويتم تطبيق المادة (93) المتعلقة بحالة شغور موقع للرئاسة والتي تنص على ما يلي:
1-في حالة شغور منصب رئيس الجمهورية أو عجـزه الدائم عن أداء مهامه، يتولى مهامه مؤقتًا النائب الأول لرئيس الجمهورية لمدة لا تزيد على تسعين يومًا من تاريخ شغور منصب رئيس الجمهورية، على أن يتم خلالها إجراء انتخابات رئاسية جديدة.
2-في حالة شغور منصب رئيس الجمهورية ولم يكن له نائب، يتولى مهامه مؤقتًا رئيس مجلس الوزراء لمدة لا تزيد على تسعين يومًا من تاريخ شغور منصب رئيس الجمهورية، على أن يتم خلالها إجراء انتخابات رئاسية جديـدة.
ورغم النقص الواضح في النص فيمن يعلن حالة (الشغور الرئاسي)، فإننا نجد أن هذا النص هو الأكثر ملائمة لحالة عدم إجراء انتخابات رئاسية في موعدها.
في الختام رغم أن دستور سوريا لعام 2012 صنعه الطاغية على مقاسه، واستخدمه لشرعنة تصرفاته، وسرق منه حقوق المواطنين وحرياتهم بضعف الصياغة، لكن الدساتير مثل الإنسان إذا اشتد الظلم عليها صرخت في وجه جلاديها، فهل آن الأوان لدستور صنعه طاغية أن يصرخ في وجهه ويقول له: كفى؟!!