مثَّلت الكنيسة الأرثوذكسية الروسية إحدى الركائز المهمة لنظام حكم الرئيس فلاديمير بوتين منذ توليه الرئاسة عام 2000، وفي إشارة واضحة إلى تنامي دور الكنيسة والتعويل عليه ذهب بوتين إلى أبعد من ذلك بوصفها بـ "شريك طبيعي للسلطة السياسية"، وقال في فيلم من إعداد المكتب الإعلامي للكنيسة الأرثوذكسية، وعرض على قناة روسيا الحكومية في يوليو /تموز 2013، إنه "في أصعب الأوقات التي مرَّ فيها تاريخنا عاد شعبنا إلى جذوره إلى الديانة المسيحية وإلى القيم الروحية". وزاد، وإلى جانبه بطريرك موسكو وسائر روسيا كيريل، حول عودة الروس إلى القيم المسيحية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي " كانت ولادة جديدة طبيعية للشعب الروسي". ورأى أن "الكنيسة ملأت الفراغ الأخلاقي بسبب غياب القيم بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في 1991..".
غطاء لأيديولوجية الدولة..
في بادئ الأمر ساد اعتقاد أن غاية بوتين من إعادة الكنيسة إلى الواجهة، وتوظيف دورها، تتعلق بالشأن الداخلي الروسي في المقام الأول، قبل أن يتكشف تباعا الدور المناط بها لتسويق وتبرير السياسات الخارجية التي يتبعها بوتين. بدءاً من بناء خطاب قومي معاد للغرب، يرتكز إلى أن الأرثوذكسية تعدُّ المكون الأهم في الهوية القومية الروسية، وصولا إلى تبرير التدخلات العسكرية الخارجية الروسية في القرم وسوريا بشكل مباشر، أو غير مباشر كما في ليبيا. مما يجعل من خطاب الكنيسة الأرثوذكسية في عهد بوتين غطاءً "لأيديولوجية الدولة" وكـ "قوة ناعمة" فيما يصطلح على تسميته بـ "العالم الأرثوذكسي" إن صح التعبير.
لافروف يعيد قرع الجرس..
أعاد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف تسليط الضوء مجدداً على توظيف الدين في الخطاب السياسي والبربوباغاندا الروسية المعاصرة، وقال في حديث له أمام ممثلي الأوساط الشبابية والاجتماعية في مدينة فولغوغراد الروسية، 30 أغسطس/آب الماضي، إن "روسيا لم تساعد على الحفاظ على الدولة فحسب بل أيضا على المسيحية في سوريا". وأضاف: "هذه ( سوريا) مهد المسيحية، وكانت البلاد مهددة باختفاء جميع المواطنين الذين يعتنقون الديانة المسيحية".
وسبق للوزير لافروف أن أطلق العديد من التصريحات في هذا الخصوص، حملت في طياتها سعي موسكو لانتزاع نوع من "الحماية الدينية" على المسيحيين في المشرق العربي وشمال أفريقيا. وكشف لافروف صراحة عن هذا التوجه في تصريح لـ"قناة روسيا 24"، يوليو/ تموز 2021، بالقول: "إن وزارة الخارجية الروسية بالتعاون مع الكنيسة الروسية تتخذ خطوات ملموسة لحماية المسيحيين، وخاصة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا".
الطريف في الأمر أن لافروف ربط بين ما وصفه بـ "فرار المسيحيين من الشرق الأوسط" وبين ما سماه "بدء فرض الديمقراطية هناك"، وأضاف موضحاً: "لقد هرب مئات الآلاف منهم بعد أن بدأ هناك فرض الديمقراطية، في العراق في البداية، ثم في ليبيا وسوريا".
ما سبق ليس زلة لسان، بل تعبير عن جوهر سياسات روسيا في العالم القائمة على التحالف مع الأنظمة القمعية بتعبيراتها العسكرية والطائفية والمذهبية، أو بالتعاون مع بقايا الأنظمة الديكتاتورية البائدة مثل دعم الجنرال المتقاعد خليفة حفتر في ليبيا. من هذا المنطلق وقفت موسكو ضد ثورات الربيع العربي، وأرادت من بين أهداف أخرى عبر تدخلها العسكري المباشر في سوريا، سبتمبر/أيلول عام 2015، إعادة خلط الأوراق ليكون إجهاض الحراك الشعبي المناهض لحكم بشار الأسد رافعة للثورات المضادة في بلدان الربيع العربي، ومنع انتقال الثورات إلى بلدان أخرى.
"حرب مقدسة" ضد من..؟"
شكَّلت الحالة السورية مثالاً كاشفاً لتوظيف الدين في السياسة الخارجية الروسية، وتحريف الحقائق لخنق تطلعات الشعب السوري نحو الحرية والديمقراطية والتعددية ودولة مؤسسات.
كثيراً ما يتم، في الخطاب الرسمي الروسي، تبرير التدخل العسكري في سوريا بأنه فرض نفسه لدواعي تتعلق بالأمن القومي لروسيا، وبدورها كدولة كبرى معنية بـ"حفظ الأمن والسلم العالمي"، لكن وعلى افتراض صحة وجود مصالح روسية عليا في المنطقة، تبدو أدوات ترجمة سياسات موسكو على الأرض كـ "ثقب أسود" يدل على تهافت مثل هكذا خطاب، ناهيك عن الهفوات الكبيرة التي يقع فيها واضعوا هذا الخطاب والمروجون له.
على سبيل المثال لا الحصر؛ الوزير لافروف ردّ على سؤال حول أسباب دعم موسكو لنظام بشار الأسد، في حديث لإذاعة "كوميرسانت إف أم" الروسية، مارس/آذار 2012 بالقول: "الصراع يدور في المنطقة كلها، وإذا سقط النظام الحالي في سوريا، فستنبثق رغبة قوية وتُمارس ضغوط هائلة من جانب بعض بلدان المنطقة من أجل إقامة نظام سنِّي في سوريا، ولا تراودني أي شكوك بهذا الصدد. ويقلقنا في هذا الوضع مصير المسيحيين، وهناك أقليات أخرى كالأكراد والعلويين وكذلك الدروز".
والملاحظ هنا أن لافروف ربط مصير من سماهم بـ (الأقليات) بمصير نظام بشار الأسد وجوداً وعدماً، وخصّ بالذكر المسيحيين، ليس باعتبارهم مواطنين بل كـ (أقلية دينية)، دون أدنى اعتبار للمواطنة حقوقاً وواجبات، والتي يفترض أن تقدم على أي معيار آخر. بيد أن ذلك ينسجم مع اعتبار روسيا "دولة أرثوذكسية" وليس دولة لكل مواطنيها، الذين يشكل المسلمون أكثر من 20% منهم. بينما في الحالة السورية يحذر لافروف من قيام حكم سني رغم أن السنة يشكلون الأغلبية.
المتحدث الرسمي باسم قاعدة حميميم الروسية في سوريا، أليكسندر إيفانوف، قدَّم مثالا أكثر فجاجة، في 24 يوليو/تموز 2019، حيث قال عبر قناته على تليغرام "القوات الجوية الروسية تشنّ هجمات مركزة ومكثفة على محافظة إدلب؛ رداً على قصف مسيحيين أرثوذكس في مدينة محردة"، وأضاف: "دخولنا إلى سوريا هو لحماية المسيحيين فقط، لكن رغم كل هذا القصف تستمر المجموعات الإرهابية بالاعتداء على محردة. يجب أن نجد حلا سريعا لهذا الأمر".
ويعيدنا هذا التصريح إلى تصريح آخر أدلى به رئيس قسم الشؤون العامة في الكنيسة الروسية فسيفولود تشابلن لوكالة "أنترفاكس الروسية، في 30 سبتمبر أيلول 2015 أي تزامنا مع بدء التدخل العسكري الروسي في سوريا، ووصف فيه التدخل بأنه "معركة مقدسة". بدوره قال بطريرك الكنيسة الروسية كيريل في بيان رسمي "لقد اتخذت روسيا قرارا مسؤولا باستخدام القوة العسكرية لحماية الشعب السوري من المعاناة التي يلحقها بهم الإرهابيون". وأضاف: "العملية السياسية لن تؤدي إلى أي تحسن ملحوظ في حياة الأبرياء المحتاجين إلى الحماية العسكرية".
تناقض وعلامات استفهام..
يبدو من تصريح البطريرك كيريل، المعروف بميله للحديث في الشأن السياسي، أنه يقف في صف صقور المؤيدين للتدخل العسكري الروسي في سوريا تحت غطاء ديني، لكنه أقل قدرة على إخراج أفكاره بقالب ديبلوماسي، يجيده وزير الخارجية المخضرم لافروف. ففي حديثه المشار إليه أمام ممثلي الأوساط الشبابية والاجتماعية في مدينة فولغوغراد الروسية ادعى لافروف أن موسكو "حافظت على المسيحية في سوريا"، وفي الوقت عينه "أوجدت الظروف المناسبة للعملية السياسية، التي دخلت حالياً في مرحلة الجمود من دون أن يكون لموسكو ذنب في ذلك".
تحميل المسؤولية للآخرين يندرج في إطار تعنت موسكو في عدم إجراء مراجعة لسياساتها بعد تدخلها العسكري خريف 2015، ومن ضمنها كيف يمكن الانفتاح على تسوية سياسية شاملة ومتوازنة من خلال العمل على قلب الموازين العسكرية لصالح النظام، وتأمين مظلة دبلوماسية تمنع محاسبة المسؤولين عن الجرائم التي ارتكبوها بحق المدنيين العزل. وبعد نحو ست سنوات من تدخلها العسكري المباشر يبدو أن موسكو لم تستخلص الدرس، ومفاده أن ترجيح كفة النظام من شأنه أن يزيد من سنوات الصراع الدموي ويعمقه، وإن خفت وتيرته إلى حين سيبقى معرضاً لانفجارات أشد، ومن غير المستبعد أن يكون الانهيار الاقتصادي أحد أسبابها الرئيسية، ودافعاً لفئات واسعة كانت محسوبة على القاعدة المؤيدة للنظام للانضمام للحراك المعارض له، وفقاً لما يجمع عليه كثير من المحللين والمراقبين.
توظيف موسكو للدين في الميزان..
أدرك بوتين منذ البداية أهمية الدور المحوري الذي يمكن أن تلعبه الكنيسة الأرثوذكسية كأداة من أدوات القوة الناعمة إلى جانب القوة الخشنة التي تمتلكها روسيا كقوة عسكرية كبرى في العالم. وحققت موسكو مكاسب كبيرة من توظيف دور الكنيسة والمنظمات غير الحكومية التابعة لها، لا سيما في فضاء الاتحاد السوفييتي السابق، مع ملاحظة وجود تمايز في أوضاع دول الاتحاد، ففي بعضها كان التأثير أكبر نسبياً بسبب الأرثوذكسية كعامل مشترك مثل أوكرانيا ومولدافيا وبلاروسيا، ودول أخرى فيها أقلية روسية كبيرة مثل لاتفيا. غير أن تحول دور الكنيسة إلى أداة للتدخل في شؤون الدول الأخرى وإثارة نزعات انفصالية، ومحاولة التأثير على أجندتها الداخلية والخارجية، كل ذلك أدى إلى تحول دور الكنيسة إلى واحد من عوامل التوتر، وبالتالي تراجع قوته باعتباره أحد أدوات القوة الناعمة لروسيا.
وشكّل انشقاق الكنيسة الأوكرانية عن الكنيسة الروسية بدعم من بطريركية القسطنطينية، في أكتوبر/ تشرين الثاني 2018، بعد أربع سنوات من سيطرة الجيش الروسي على شبه جزيرة القرم وضمها، ضربة موجعة لروسيا وطموحاتها في تحقيق المزيد من المكاسب بتوظيف العامل الديني خدمة لمآربها السياسية. علماً بأن الأوكرانيين الأرثوذكس كانوا يشكلون ما نسبته 30% من مجموع المسيحيين الأرثوذكس المنضوين تحت بطريركية موسكو. ووصفت الكنيسة الأرثوذكسية الروسية ذلك بأنه "أكبر انشقاق في المسيحية منذ ألف عام".
أما مصير توظيف موسكو للدين في تعاملها مع الملف السوري، بذريعة حماية المواطنين السوريين المسيحيين، فلا يعدو كونه تعمية لا يمكن أن تقنع أحداً، ولا وظيفة لها سوى نوع من الدعاية الداخلية لتبرير التدخل العسكري في سوريا، مع ملاحظة أن ذلك جرى سابقاً على أبواب الانتخابات الرئاسية الروسية في 2018 ويجري اليوم مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية.