انتهت الانتخابات التركية في الثامن والعشرين من أيار الماضي، وهي مدة كافية كي يتوقف المرء ليستخلص منها بعض المؤشرات والعبر، بعيدا عن ضغط الحدث اليومي وسيل الأخبار المتدفق والأجواء المتوترة التي رافقتها. وما يهمنا هنا هو حالتنا العربية في المقام الأول.
كان لافتا للنظر مدى الاهتمام الدولي والعربي بالانتخابات التركية الأخيرة، وهو اهتمام ينبغي أن نفرق فيه بين اهتمام رسمي غربي، واهتمام شعبي عربي (أو شرق أوسطي)، فالتغطية الإعلامية في العالم الغربي عكست إلى حد كبير اهتمام النخبة الغربية بالحدث التركي وتأثيراته في مسار السياسة التركية في السنوات الخمس المقبلة. وكان من الجلي أن هذه التغطية تكشف رغبة الحكومات الغربية في نجاح المعارضة التركية في الوصول إلى السلطة. وعلى النقيض من هذه الرؤية، فلم يكن خافيا التعاطف الشعبي العربي مع الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، وهو ما برز في الارتياح الذي ظهر في وسائل التواصل الاجتماعي، وفي خروج مظاهرات في أكثر من مكان في العالم العربي بعد إعلان فوز الرئيس التركي في الجولة الثانية من الانتخابات.
تجدر بنا قراءة هذا الاهتمام بطريقة لا تقف عند تكرار مقولة: "إن هذا الاهتمام يعكس تحول تركيا إلى قوة إقليمية"، فهذه القراءة تقف عن سطح الحدث فقط، ولا تكشف عن الأسباب العميقة وانعكاساتها علينا نحن العرب.
يعود هذا الاهتمام والتعاطف الشعبي مع الرئيس التركي إلى عوامل عديدة، أبرزها ما يمكن أن نطلق عليه المعادل الموضوعي لغياب الديمقراطية في العالم العربي، واللجوء إلى تعويض هذا الغياب عبر النموذج التركي الذي يقدم نفسه على أنه قادر على مواجهة القول السائد عن عدم صلاحية المجتمعات الإسلامية للديمقراطية.
مساحة الحرية التي وفرتها وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت متنفسا يعبر فيها الناس عن غياب الديمقراطية في واقعهم، بحيث يمكن تشبيهها بالحدائق التي يجد فيها سكان المدن المكتظة القليل من الهواء النقي
ولكن النقطة التي يجب الوقوف عندها هنا أن هذا الاهتمام بحدث خارجي، والتفاعل معه عبر التغريدات والمنشورات في تويتر وفيسبوك، يرينا المدى الذي يمكن أن يؤثر سلبا هذا "التنفيس الديمقراطي" في الواقع السياسي العربي، ذلك أن هذا الجهد يجد صداه في الواقع الافتراضي ولا يتعداه إلى الواقع الحياتي. والمقصود هنا أن الفضاء الافتراضي تحول إلى عالم يجري فيه الجدل والنقاش والحوار، ولكن كل هذا النشاط يبقى حبيس هذا الفضاء المعزول، فمساحة الحرية التي وفرتها وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت متنفسا يعبر فيها الناس عن غياب الديمقراطية في واقعهم، بحيث يمكن تشبيهها بالحدائق التي يجد فيها سكان المدن المكتظة القليل من الهواء النقي قبل أن يعودوا مجددا إلى استنشاق الهواء الملوث. وهو ما أظن أن الأنظمة العربية سعيدة به، لأنه أزاح عن كاهلها العبء الذي كان من الممكن أن يجد فيه هذا الحشد مساراته على أرض الواقع.
ليس مرد هذا الاهتمام الواسع بالانتخابات التركية الإيمان بالديمقراطية والانتخابات وحدهما بمقدار ما هو تعلق بفكرة البطل المنقذ أو المخلص، وهي فكرة تتجلى في المخيال الجمعي دائما، وتعثر دائما على المسالك التي تنفذ منها إلى الشأن العام.
ولا تنحصر فكرة المخلص أو المهدي المنتظر بالمجال الديني، فهذه الفكرة الدينية، التي تقول إن منقذا ما سيأتي في آخر الزمان لينصر الحق بعد طول تقهقر وهزائم، وجدت الطريق إلى عالم السياسة، لأن ترابط الحقول الإنسانية وتشابكها يسمح بنوع من ارتحال الأفكار بين المجالات المتعددة. وكان المخلص يتلون بالألوان الإيديولوجية لكل مرحلة سياسية، فقد كان في الخمسينيات قوميا عربيا تقمص شخصية عبد الناصر الذي وقف، وياللمفارقة، في مواجهة مع عدنان مندريس الذي جاء إلى السلطة عبر انتخابات ديمقراطية، ثم تشظى هذا المخلص بحسب تشظي الاتجاهات السياسية بعد انهيار المشروع القومي، فظل عند بعض التيارات قوميا عربيا لبس البدلة العسكرية لصدام حسين في أثناء الحرب العراقية الإيرانية، ثم انزاح قليلا عن خطاب القومية العربية العلماني، وأطلق لحيته مع اتجاه الخطاب القومي العربي إلى مواقع المحافظة الدينية والاجتماعية، وارتدى هذا المخلص عند بعض التيارات الدينية عباءة أسامة بن لادن مرة، وأيمن الظواهري مرة أخرى، قبل أن ينتهي به المطاف مع صورة أبي بكر البغدادي المشبعة بالتناقضات.
المؤسسة في بلادنا، سياسية أو اقتصادية أو غير ذلك، ما زالت تحبو وتتعثر حين تريد أن تنهض، تارة بفعل عوامل داخلية، وتارة بفعل عوامل خارجية
ليس القصد من وراء هذا الكلام إدانة هذا الطرف أو ذاك، مثلما لا يعني أيضا الإيمان بالتفرقة بين عقلية شرقية وأخرى غربية، جريا وراء التقسيمات التي أطلقها منظرو الحركة الاستعمارية، والتي كان القصد من ورائها تسويغ الهيمنة الغربية على العالم الشرقي. غير أن الواقع يقول إن العالم الغربي حيّد الأفراد جانبا، وبنى مؤسسات راسخة لها بنية قانونية واضحة وصلاحيات محددة لا تتأثر كثيرا بمجيء هذا الفرد أو ذاك، فقوة المؤسسة لا تنبع من الفرد حتى لو كان رئيسها، وهذا ما يفسر على سبيل المثال وصول شخص من أصول هندية إلى رئاسة وزراء بريطانيا، واعتلاء ابن مهاجر باكستاني سدة الوزارة في اسكتلندا. ما أعنيه هنا أن المؤسسة تحوّل رئيسها إلى موظف يسير دولاب العمل كما يقولون، بدلا من أن يكون قائدا يدير الدفة في الاتجاه الذي يريده. ولهذا مثلا قد يخطئ الألماني باسم المستشار الحالي، ولعل "ميركل" ما زالت في ذاكرته لطول مكثها في المستشارية، والأمر نفسه يصح على الفرنسي الذي ربما لا يعرف اسم رئيس وزرائه الحالي.
فحوى الكلام السابق أن المؤسسة في بلادنا، سياسية أو اقتصادية أو غير ذلك، ما زالت تحبو وتتعثر حين تريد أن تنهض، تارة بفعل عوامل داخلية، وتارة بفعل عوامل خارجية، ولكن النتيجة واحدة، وهي أن الفرد في عالمنا العربي والشرقي عموما ينظر إلى الفرد لا المؤسسة، ويثق به أكثر من ثقته بها، ولاسيما أن المؤسسة لدينا ما زالت ضعيفة يمكن أن يطبعها هذا الفرد أو ذاك بميسمه الخاص.
يحب الناس في بلادنا، في ظل توارث الموقع الأول في الدول العربية، أن يروا شخصا قادما من عامة الناس، يرتقي في سلم الحكم صعودا إلى قمته، ويمثل أملهم في أن يكون لهم شخص مثله يصعد من بينهم بأصواتهم هم إلى القصر الجمهوري.
هكذا تمتزج في شخصية الرئيس التركي كل السمات الحالية للمخلص الفرد كما يراها الجمهور العربي: الرئيس البسيط القادم من حواري إسطنبول الشعبية، والإسلامي المعتدل، وصاحب الخطاب المتماهي مع أوجاع الناس. لا ينطبق هذا على العرب وحدهم، فالكثير من الترك الذين صوتوا له ينظرون إليه بالطريقة نفسها.