الأسد في "طوفان الأقصى".. تحويل الحرب إلى فرصة سمسرة محتملة

2024.08.30 | 06:33 دمشق

آخر تحديث: 30.08.2024 | 06:33 دمشق

651111
+A
حجم الخط
-A

مع بروز التباين في المواقف بين النظام السوري وحلفائه في محور الممانعة إلى العلن، والذي تُرجم مؤخرًا عبر ما كشفه موقع "تلفزيون سوريا" عن زيارة رئيس مخابرات النظام، حسام لوقا، إلى بيروت دون لقاء مع الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، ظهرت للعيان مرة أخرى الوظيفة التاريخية للنظام الأسدي منذ مطلع السبعينيات في تكريس العسكرتاريا المتوحشة وحماية أمن إسرائيل.

ومع بداية معركة "طوفان الأقصى"، أبدى النظام حزمًا واضحًا، لكن تجاه حلفائه، خصوصًا مع محاولات المحور إحداث حشود وإعادة تموضع عسكري واستجلاب مقاتلين أجانب من العراق ولبنان واليمن إلى قرى الجنوب السوري المحاذية للجولان. وقد قوبلت هذه التحركات برادارات النظام وروسيا قبل القبة الحديدية والطائرات المُسيرة الإسرائيلية.

يمكن العودة هنا إلى خطابين متضادين، الأول لرامي مخلوف في مايو 2011، حين أعلن أن أمن إسرائيل من أمن سوريا وأن انهيار الدولة السورية يعني فتح الجبهة مع إسرائيل. بعد ذلك بسنتين، تحدث الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، عن نية الحزب والمحور فتح جبهة الجولان، كرد على دعم واشنطن وأوروبا وبعض العرب للمعارضة السورية.

نصر الله برر حينها الصمت الأسدي الطويل تجاه استعادة الجولان وفتح الحرب على إسرائيل بضيق الهوامش ومركزية الدولة والحصار التاريخي على النظام. أطلق حينها مواقف تتحدث عن أن الحرب المفروضة على النظام تشكل فرصة لقيام مقاومة شعبية في الجولان كرد استراتيجي على زعزعة الأمن الوطني السوري.

سوريا التي انتقلت من مرحلة الدولة الأمنية القادرة والممسكة بكل مفاصل القرار إلى مرحلة الدولة الفاشلة والمعطلة والتي تحكمها العصابات والجزر المخابراتية، أصبحت تربة خصبة لتفعيل المقاومة فيها وفق رؤية إيران وحزب الله.

ورغم أن قيادة حزب الله الممتعضة من أداء النظام تجاه المعركة المفتوحة في غزة تحاول الآن الحديث عن توازنات روسية – إسرائيلية تحول دون هذا المسار التراكمي لفعل المقاومة، إلا أن خطاب 2013 وتهديدات تحرير الجولان أتت قبل سنتين ونيف من الانخراط الرسمي الروسي في سوريا لدعم الأسد.

وعليه، فإن خطاب مايو 2013، وبالعودة إلى كل السقوف التي رفعها الحزب وحلفاؤه حول تدمير إسرائيل وحلفائها العرب، يمثل وثيقة سياسية تاريخية تحدد الرؤية والأهداف الاستراتيجية لإيران وحلفائها، وعلى رأسهم حزب الله، في سوريا. فالدولة الوطنية الضعيفة هي مشروع حتمي لصعود الفوضى والمقاومة وتأسيس الميليشيات، كما هو حاصل في لبنان من تزاوج بين الفساد والسلاح.

بالمقابل، فإن الدول الممسوكة والقوية التي تمتلك قانونًا نافذًا لا توفر مثل هذا الهامش على الإطلاق. فسوريا التي انتقلت من مرحلة الدولة الأمنية القادرة والممسكة بكل مفاصل القرار إلى مرحلة الدولة الفاشلة والمعطلة والتي تحكمها العصابات والجزر المخابراتية، أصبحت تربة خصبة لتفعيل المقاومة فيها وفق رؤية إيران وحزب الله.

وفقًا لتعبيرات الباحث "مهند الحاج علي"، فالدولة الممانعة القوية تحمل الفيروس وتوزعه، لكن لديها مناعة من الإصابة، على عكس الدولة الضعيفة. في عالم الممانعة، هناك صنفان: قوي يُعطي المقاومة أو ينقلها، وهذا حال إيران وسوريا، وضعيف يتلقاها، مثل لبنان والعراق واليمن.

بالمقابل، فإن الحزب الذي لم يستقبل لوقا، باغته النظام بتغييب خطابات نصر الله عن شاشات النظام الرسمية وغير الرسمية. انبرى حلفاء الأسد اللبنانيون الذين بدؤوا الحديث عن التعب والتململ من الانخراط في معركة حماس بترويج سرديات كثيرة، أهمها أن سوريا لا تريد الانغماس في حرب المحور الإقليمية. يبدو أن النظام السوري، رغم انهياره الإداري والمؤسساتي وتحوله لدولة عصابات مارقة، قادر على تنفيذ أجندة الهروب من الحرب. لذا فإن قصف الجولان يحدث من الداخل اللبناني، والرد عليه إسرائيليًا يجري في جنوب لبنان أو بقاعه الشمالي أو الغربي.

سوريا اليوم، بزعامة البعث الأسدي العائلي، هي الترجمة الأكثر راديكالية لأنظمة الصمود والتصدي وصواريخ الناصر والفاتح، التي لا تعرف من المقاومة سوى أقبية المخابرات وغرف التعذيب والكهرباء وانتهاك الخصوصية وترويع الآمنين.

وفي عمق العلاقة التاريخية بين الضاحية الجنوبية لبيروت وقصر المهاجرين، يعتبر حزب الله نفسه جزءًا من مشروع مشترك صاغه حافظ الأسد والحرس الثوري وسمح بهوامشه ضمن سقف واضح: المعسكرات في الجنوب للحزب والسياسة لحركة أمل. وبالتالي، فإن دمشق ليست غريبة عن هذه المعادلة، وهي نفسها لجأت إلى التدخل الروسي منذ العام 2015 لإيجاد توازن يُتيح لها تجنب الغرق في مستنقع الممانعة المباشرة.

بالنسبة إلى الأسد، فهو ممانع بالفطرة قبل تأسيس جمهورية الثورة الإسلامية وأحزابها وشبكاتها وتجاراتها المسموحة والممنوعة. النظام السوري هو عرّاب سردية "الرد في المكان والزمان المناسبين" التي سخر منها نصر الله في خطابه الأخير. في الداخل السوري، نجح النظام في جذب فصائل فلسطينية لقمع الثورة السورية ودك مخيم اليرموك وتحويل مدارسه إلى أقبية تعذيب.

كل ما سبق كانت كلفة المقاومة بالنسبة للنظام صفرية: خطاب سنوي في ذكرى الجلاء، وكلمة متلفزة تحتفي بانتصار تشرين، وتلامذة ينتشرون على الطرقات يرفعون صورة الأسد ويلوح لهم بيده. اليوم باتت الكلفة باهظة قد تطيح بكل الاستثمار، لذا بات النظام يضبط حلفاءه الممانعين وينقل رسائل نتنياهو إلى الضاحية موفدًا إماراتيًا ينتظر مساعدات آخر العام.

العين الآن على خصوم الأمس، وأموالهم ومساعداتهم. افتتح الأسد في خطابه "الأحضان الشهير" مرحلة جديدة من الانبطاح وتسليم الأمر، منتظرًا من زيارات مديري استخبارات دول أوروبية مورد رزق جديد كامتداد لتجارته باللاجئين واللجوء.

صحيح أن النظام لم يستطع تركيز حضوره وبناء قدراته من جديد نتيجة الواقع المادي والأمني، لكنه حريص على بقاء خيط رفيع مع فكرة الممانعة، لكن الممانعة الصوتية غير المكلفة، كمدعو لزفاف دون دعوة يكتفي بترطيب لسانه في حفلة الزجل المجانية عن الصمود والتصدي. لكن سرعان ما يخرج من العرس عند انتهاء العشاء باحثًا عن تاجر أعراس جديد.

سوريا اليوم، بزعامة البعث الأسدي العائلي، هي الترجمة الأكثر راديكالية لأنظمة الصمود والتصدي وصواريخ الناصر والفاتح، التي لا تعرف من المقاومة سوى أقبية المخابرات وغرف التعذيب والكهرباء وانتهاك الخصوصية وترويع الآمنين. هي امتداد لحقبة عبد الناصر وعبد الحميد السراج، لهذا لن يكون الجنوب السوري وفق حسابات النظام ولعبة القمار التي ينخرط فيها منذ أشهر، ساحة مواجهة أو دفاع عن فلسطين وغزة. إنه نظام وظيفي ينتظر العروض والصفقات، دون التخلي عن فن الخطاب والأحضان.