أخيرًا، وبعد عودته من الاستدعاء الذي جلبه من سرير نومه إلى موسكو مخفورًا، يطل علينا الأسد بعد حملات تشويقية كالمعتاد تتحدث عن غيابه و"إقامته الجبرية" في مكان ما.
يطل علينا الأسد بخطبة عجفاء ليقول بالفارسية القحة ما كتبته أيادي الملالي له بالحرف، ولم يخجل وهو يتفوه بأنه أصبح تابعًا وأصبحت المقاومة في لبنان وفلسطين واليمن والعراق مثالاً يحتذى، وعليه اتباعه، وعلينا أن ندين له (بحرب الحسين ضد يزيد) على حد تعبير الخامنئي. عاد الأسد إلى حضن الخامنئي وهو يردد "ما أحلى الرجوع إليه"، وكأنه يقول لبوتين "هو صحيح الهوى غلاب"، فشبح لونا الشبل يطارده في كل رجفة يد وصفار وجه بدا واضحًا على محياه.
تحدث الأسد ناسفًا كل مسار التطبيع التركي الروسي، إنه الأسد الإيراني يا سادة، فكيف انقلب على سيد الكرملين؟ وماذا يريد بشار من بوتين أن يفعل له، وهو الذي حذره معنفًا: إياك واتباع طهران فلن أملك لك خلاصًا إذا وقعت الواقعة، واشتعلت المنطقة المشتعلة أصلاً، بل إنها تلتهب حتى حسن نصر الله شعر بها وخافها، مخففًا من سعار رده على مقتل فؤاد شكر، واكتفى بغزوة ذات الجناحين وقصف قن للدجاج على أنه الوحدة 8200 الشهيرة بوحدة الاغتيالات، تاركًا جمهوره غارقًا في أفلام الدعاية عن أنفاق تحت الأرض وصواريخ دقيقة وبالستية يمتلكها، لكنها فيما يبدو معدة لحربه ضد كل "يزيد" في الوطن العربي وليس ضد إسرائيل.
الانسحاب من سوريا كان ولا زال شرطًا إيرانيًا لم تُخفِه طهران ولا لحظة لرغبتها بخروج لدودها التركي خوفًا من أن تصبح تركيا وريثًا لتركة الرجل المريض الذي شاخت ردوده ولانت أظافره في طهران.
جلطة سياسية إيرانية حادة تصيب شريان التطبيع التركي مع النظام
بشروطه الإيرانية عاد الأسد إلى علو صوته وإن بلغة أقل عدوانية من ذي قبل، احترامًا فيما يبدو للفت النظر الروسي مؤخرًا، الذي هذب من ألفاظه ولم يهذب معانيها. تحدث الأسد كرئيس دولة معتدى عليها من دولة جارة، ناسيًا خمسة جيوش جاثمة على أرض بلد يحكمه وتتحكم في موارده وقراره وميليشيات متعددة الجنسيات، و16 قرارًا دوليًا صدر في الشأن السوري يقول بالانتقال السياسي واللجنة الدستورية التي وقع وزير خارجيته على قبولها باسمه، ومتناسياً أن سماء سوريا أصبحت مسرحًا لعربدة الطيران الإسرائيلي، يطول فيها أي هدف يريده ولو كان قصر المهاجرين فيما لو دعت الحاجة لذلك وبرضا بوتين وختمه. فالانسحاب من سوريا كان ولا زال شرطًا إيرانيًا لم تُخفِه طهران ولا لحظة لرغبتها بخروج لدودها التركي خوفًا من أن تصبح تركيا وريثًا لتركة الرجل المريض الذي شاخت ردوده ولانت أظافره في طهران وأصبح سخرية ليس قبلها ولا بعدها. فالجلطة السياسية الإيرانية التي أصابت شرايين مسار التطبيع التركي مع نظام الجريمة الأسدي أدخلت هذا المسار ليس في "الغوما" السياسية أو غرفة الإنعاش بل فيما يبدو لثلاجة الموتى.
بلغة أخرى، لن تسمح إيران لمسار يستبعدها من على الطاولة ويضع تركيا في موقع الوريث لموقعها في سوريا، هذا الموقع الذي يصبح يومًا بعد يوم أشد خطورة على طهران وأكثر ضغطًا وكلفة وسيكون في عين العاصفة قريبًا، وهي تدرك ذلك وتقاتل بكل ما لديها لتقاوم تلك الموجة الجارفة القادمة لا محالة. ونحن لا ننسى العام الماضي حين خرج حسن نصر الله ملوحًا بأصبعه مهددًا بأنه (سيقطع اليد التي تمتد لطريق طهران بيروت عبر سوريا) فيما كان يُعرف بالحزام العربي السني لإغلاق البوكمال، ولن تسمح طهران إلا بما تتصوره حلاً إيرانيًا لسوريا تراه وتفصله على مقاسها وإن راعت بعض المواصفات الروسية فيه، ولكنها تصنعه على عينها وتجهز لمرحلة قد تضطر فيها للخروج عسكريًا وذلك عبر الإمساك بتلابيب الحكم والدولة، وعبر بنى تصنعها لتفخيخ أي حل يستبعدها.
أما الأسد، فلا زال يريد كل شيء: الحماية والغطاء السياسي والعسكري الذي منحه إياه بوتين، وميليشيات طهران التي تصنع له الكبتاغون ليمول جرائمه، ويبتز دول العالم وأموال الخليج ورضا أمريكا دون أن يفعل شيئًا سوى قتل الشعب السوري، وهو يسلم كل مفاتيح دمشق للخامنئي.
يبدو أن طهران ما زالت لها اليد العليا في قصر المهاجرين وليست موسكو الطارئة بعد عام 2015.
فكيف تقوم إيران بصناعة ذلك الحل؟
أمام مجلس شعبٍ صُنع في أروقة الحرس الثوري الإيراني، خطب بشار الأسد، وكان هذا المجلس ختامًا لعمليات متسارعة اتخذتها إيران وخطوات استباقية، لترتيب بيت النظام الداخلي بعد أن قامت بحشو "الدولة" بمكوناتها والموالين لها إن كان في البيروقراطية أو السياسية أو الأمنية والحزبية، حيث نقلت إلى ملاكها حزب البعث ونفخت فيه الروح ونفضت عنه الغبار وختمتها بـ"السلطة" التشريعية.
الإحصاءات والمتابعات للأسماء التي صعدت لتجلس تحت قبة المجلس الموقر كلها تدين بولاء مطلق لإيران وميليشياتها. إيران أرادت من خلال كل ذلك القبض على مفاصل الدولة، ليس فقط الحالية وإنما الأهم الدولة القادمة فهي تستعد لمرحلة خروجها العسكري بتدعيم وجودها السياسي وقبضها على أجهزة الحكم والدولة بعد أن أيقنت أن جهودها في تشييع المجتمع لم تعطها ما تريد. وبعد كل ما قام به الأسد الإيراني، تقول إيران إن ما طالب به العالم من عملية انتقالية وإصلاحات وضبط قمنا به وانتهى الأمر، وهذا فهمنا للقرار 2254، فادفعوا المال وطبّعوا العلاقات وعودوا إلى دمشق وانسوا تفسيراتكم للقرار 2254 والانتقال السياسي ودستور جديد وانتخابات (كما قال وزير الدفاع التركي)، وكما يرى المجتمع الدولي والأمم المتحدة.
هذا ما جعل الأسد أمس يبدو كرئيس دولة أوروبية ليس لديها أي عقبات في شرعيته الدولية. وعلى مقلب آخر، نرى أن صحفًا "حزباللاتية" تقصف جبهة الأردن، الذي بذل كل الجهد لإعادة بشار إلى الجامعة العربية وصاحب خطة خطوة بخطوة، ولكنه كما زرع الشوك حصد الريح. فقد اتهمت جريدة الأخبار، لسان حال حسن نصر الله، الأردن بعرقلة جهود التطبيع العربي مع "سوريا"، بل واتهمت الصفدي بالتحريض المستمر على سوريا وعدم التجاوب لعقد اجتماع لجنة المتابعة العربية، فيما يبدو غمزًا من قناة العرب عمومًا والأردن خصوصًا، حيث أنهم سيكونون في مرمى هدف طهران المسعورة والمذعورة من تطويق نفوذها في المنطقة، وتريد أن تخيف الجميع من التعاون في عملية إزاحتها.
إذن، في الخلاصة لا شيء يمكن أن يقال سوى أن بشار الإيراني دخل الرهان الإيراني بكل ما يملك، والذي قد يعرضه كما أسلفنا إلى عواقب وخيمة سمعها في رحلة جلبه وإحضاره إلى موسكو، لكن فيما يبدو أن طهران ما زالت لها اليد العليا في قصر المهاجرين وليست موسكو الطارئة بعد عام 2015 وبعد انغماسها في وحل أوكرانيا ومعركة كورسك التي أذهبت هيبتها على الإطلاق. فهل ستنجح موسكو في إزالة الجلطة الإيرانية من شرايين مسار التطبيع أم ستنجح طهران في لمس أكتاف موسكو في دمشق والقول "أنا الحكومة"؟