لم يكن تاريخ الأرجنتين الكروي مشرقاً دوماً كما هي هذه الأيام، ففي المرة الأولى التي حازت فيها بلاد الفضة الكأسَ الذهبية، كانت الأقاويل تسري في كل مكان عن المؤامرات التي حاكها الديكتاتور الأرجنتيني، خورخه فيديلا، الذي أمسك بالبلاد طوال خمس سنوات حمراء دامية، من 1976، حتى 1981، سنة عودة الديمقراطية إلى البلاد ووضعه في الحجز بقية حياته..
ففي عام 1976 انقلب الجنرال فيديلا على الرئيسة الأرجنتينية إيزابيل بيرون ذات الشعبية الوطنية الكبيرة، وذلك بدعم سري من المخابرات الأميركية التي كانت ترعى الأنظمة العسكرية في أميركا الجنوبية خوفاً من انتشار الشيوعية. فتسببت سياساته الاقتصادية والأمنية في تقييد الحريات في الأرجنتين، وترافق ذلك مع اعتقال وتعذيب وقتل المتظاهرين المعترضين عليه وإلقاء الآلاف في مياه المحيط وخطف أبناء المعارضين وتقديمهم لمؤيديه ممن لم ينجبوا الأطفال ليقوموا بتربيتهم .
أدت السياسات الاقتصادية إلى انهيار البيسو الأرجنتيني، مما فتح الباب أمام البنك المركزي الذي يسيطر عليه أن يبدأ رحلة الاقتراض من البنك الدولي التي لا تزال تداعياتها مستمرة حتى اليوم، أدى هذا كله إلى تضاعف الدين الخارجي للأرجنتين أربعة أضعاف خلال ست سنوات فقط.
ومن غير المبالغ فيه أن متابعة الطغاة أو الديكتاتوريين للشعبوية التي تمنحها كرة القدم يجعل من هذه اللعبة الجماهيرية أداة ممتازة لتحقيق التواصل المنقطع بين الجنرال الحاكم والشعب التعيس الفقير الذي ينتظر أي انتصار في حياته حتى لو كان من ورق وكرات مطاطية.
من غير المبالغ فيه أن متابعة الطغاة أو الديكتاتوريين للشعبوية التي تمنحها كرة القدم يجعل من هذه اللعبة الجماهيرية أداة ممتازة لتحقيق التواصل المنقطع بين الجنرال الحاكم والشعب التعيس الفقير
أدرك فيديلا هذه المعادلة، وسعى لاستضافة بطولة كأس العالم سنة 1978، في بلاده لأول مرة، ونجح في ذلك بعد تعاون مع أجهزة المخابرات الأميركية التي سهلت له الأمر لدى الفيفا، واسعة الذمة وسيئة السمعة حينذاك، وأصر على أن يفوز فريقه الوطني بتلك البطولة لأول مرة، فاقترض مجدداً من أجل تحسين البنية التحتية في البلاد بدعم كبير من البنك الدولي الذي أقرضه مجدداً بموافقة من الولايات المتحدة.
وبالفعل نجحت الأرجنيتن في استضافة الكأس والمنافسة في مبارياته بعد أن تدخل بشكل مباشر في مواعيد المباريات وبالتالي كان من السهل عليه معرفة كم الأهداف التي يجب على فريقه أن يحقق من أجل التأهل إلى الدور الثاني، فكان على الفريق المحلي أن يفوز على البيرو بفارق أربعة أهداف حتى تستطيع الوصول إلى المباراة النهائية، وتقول المصادر في الأرشيف الوطني الأميركي أن فيديلا اجتمع على الفور مع وزير الخارجية الأميركية آنذاك هنري كيسنجر وحدثت اتصالات سريعة للغاية مع بعض الجنرالات في البيرو وتم الاتفاق أن تخسر البيرو أمام الأرجنتين بفارق خمسة أهداف على الأقل، مقابل أن تدفع لها الأرجنتين 50 مليون دولار و35 ألف طن من الحبوب، وضمان الإفراج عن بعض السجناء السياسيين البيروفيين في بيونس آيريس وقبل بدء المباراة دخل فيديلا بنفسه إلى غرفة تبديل الفريق البيروفي بنفسه لإخبارهم بسريان الاتفاق مع الحكومة في البيرو، وأن أول شحنة قمح في طريقها الآن إلى ليما عاصمة البيرو، وبالفعل خسرت البيرو أما المنتخب الوطني بنتيحة ستة إلى صفر.
رغم أن الأرجنتين لم تسجل قبل هذه المباراة سوى هدفين فقط في كامل البطولة، وقبل المباراة الأخيرة أمام هولندا تدخل مجدداً الديكتاتور، وطالب بتغيير الحكم، وجرت محاولات لخطف أو تهديد نجم المنتخب الهولندي وفازت الأرجنتين بتلك البطولة لتنطلق الاحتفالات في عموم البلاد المتهالكة من الفقر والقمع.
بعد مرور ثلاثة عقود تسربت الوثائق السرية الصادرة عن مجلس الأمن القومي الأميركي لتكشف أن وزير الخارجية الأميركية هو من قرر فوز الأرجنتين في تلك البطولة من أجل أن تستقر الأوضاع الأمنية في البلاد لمصلحته.
في عام 1981، سقط الديكتاتور وحكم بالسجن مدى الحياة، ووجد ميتاً في زنزانته في عام 2013، وانتظرت الأرجنتين مجدداً وصول المنقذ، حيث كان الشعب بمجمله يعلم حقيقة ما جرى في أروقة الديكتاتور، حتى وصل مارادونا الذي أهدى الأمة الأرجنتينية كأس العالم لثاني مرة، واستحقاق رياضي هائل ومشهود، لا غبار عليه، ومن هنا بدأت رحلة الأرجنتين الكروية العظيمة، المترافقة مع هوس الشعب هناك بأصالة الفوز فيها، وليس بالمؤامرات المؤدية إلى الفوز بأي كأس حتى لو كان كأس العالم.
مع الحاجة الكبرى لتلك الشعوب المقهورة أن يكون لديها بطل يمثلها ويحقق أحلامها، بطل، لا غبار عليه، فهل لنا أن ننسى أن الأرجنتين قدمت للعالم قبل فيديلا، القائد الثوري أرنستو تشي غيفارا، الذي قتل في بوليفيا في معارك الثورة، وقدمت إيفا بيرون زوجة الرئيس خوان بيرون، الرئيس الملهم وصاحب الشعبية الكبيرة في تاريخ أميركا اللاتينية، ومن ثم جاء مارادونا المضمخ بالإشاعات والندوب والمشكلات، ولكنه كان بطلاً.. أما اليوم فلدى الأرجنتين ليونيل ميسي، بما له وما عليه وقد انتهى في مسيرته الكروية، فهل ستنتظر هذه الأمة كثيراً قبل وصول البطل الجديد؟