سجّلتْ الجامعات في سوريا منذ انطلاق الثورة في آذار عام 2011 موقفاً مميزاً بحراكها الطلابي، وباتت احتجاجاتها علامة فارقة في الثورة السورية، كونها خرجت في صروح للعلم تؤكد اتساع رقعة المظاهرات لتشمل "شريحة المتعلّمين"، التي دأب نظام الأسد على إشاعة حيادها عن "الأزمة" ووقوفها إلى جانبه، فالمظاهرات بحسب إعلامه تقتصر على أصحاب السوابق وأهل الشرور.
وباتت جامعة حلب واحدة من أكثر نقاط التظاهر في سوريا زخماً، خاصة بعد تنظيم حراكها الطلابي الثوري ضمن تنسيقية "جامعة الثورة"، والتي تمكّنتْ في الشهور الأولى لعام 2012 من الترتيب لعدد من المظاهرات الكبيرة، التي احتشد لها طلاب الجامعة من كلّ كلّيّاتها.
إلا أنّ حراك جامعة حلب لم يكن مقتصراً على الاحتجاجات في كلّيّاتها، بل إنّ زخم احتجاجاتها الأكبر كان في مدينتها الجامعية، والتي انضمّت مبكراً إلى الحراك الثوري، حيث انطلقتْ أولى مظاهراتها في الثالث من أيار عام 2011، ليتّخذ حراك طلبتها بعد ذلك نهجاً تصاعدياً أصبحت المدينة الجامعية على إثره نقطة توتر دائمة حتى نهاية العام الدراسي 2010-2011.
اقرأ أيضاً مقال سابق للكاتب ثورة إدلب في مدينة حلب الجامعية
المدينة الجامعية في حلب
تحتلّ المدينة الجامعية في حلب الطرف الغربي من حرم الجامعة الأوسط، وتضم 20 وحدة سكنية خُصِّصتْ تسعٌ منها للطالبات فيما خُصِّصت عَشْرٌ أخرى للذكور، بينما تفرّدت الوحدة "عشرين" في استقبال الطلبة الزائرين باسم "دار الضيافة"، وتتسع المدينة إجمالاً لما يقارب 16000 طالباً وطالبة بمعدل 5-6 أشخاص في الغرفة الواحدة، وللمدينة الجامعية أربعة أبواب رئيسية، يفتح اثنان منهما شمالاً باتجاه حي الشهباء، فيما يؤدي الثالث جنوباً إلى الشارع الفاصل بين المدينة وحي الفرقان، أما بابها الأهم فيقع في زاويتها الجنوبية الشرقية، حيث يربط كليات الجامعة في الحرم الأوسط مع الوحدات السكنية، وتضم المدينة الجامعية إضافة إلى الوحدات السكنية عدداً من المرافق، مثل سوق تجاري ومقهى بسيط إضافة إلى عدد من الملاعب الرياضية.
وبسبب طبيعة السكن الجامعي الذي يقتصر على شريحة الشباب من طلاب الجامعة، وخصوصية مدينة حلب الجامعية بالعدد الضخم من الطلاب في مساحة جغرافية ضيقة، والذي كان كثير منهم يقضون يومهم في متابعة أخبار مدنهم وبلداتهم الثائرة، التي كان بعضها يعيش مع دخول عام 2012 أياماً عصيبة بسبب انتقال نظام الأسد لاستخدام الطائرات الحربية مع المدفعية الثقيلة والمجموعات الطائفية في إخضاعها لإرادته، تحوّلَت المدينة إلى ما يشبه حيّاً ثائراً، فلا يكاد الطلاب يدخلونها مع انتهاء يومهم الدراسي، حتى تبدأ المظاهرة اليومية التي تنفضّ سريعاً مع اقتحام قوات حفظ النظام للمدينة، فينتقل الطلاب إلى وحداتهم السكنية، ويواصلون تظاهرهم من نوافذ غرفهم حتى ساعات متأخرة من الليل.
وهذا ما أبعدنا في إدارة تنسيقية جامعة الثورة عن محاولة إنشاء بنية تنظيمية خاصة للمدينة الجامعية، والتي لم تكن تحتاج لبدء مظاهرة فيها أكثر مِن أنْ يبدأ أحدهم التكبير في سوقها، لتهبّ إليه جموع الطلاب هاتفةً للحرية وإسقاط النظام.
المظاهرة الأخيرة
مع انقضاء عدة شهور على بداية عام 2012، بدأت القيادة الأمنية في مدينة حلب تدفع باتجاه "مسيرات" مؤيدة لنظام الأسد في أحيائها، بعد اتّساع رقعة المظاهرات في المدينة وتزايد زخمها، وكانت معظم هذه المسيرات تتّخذ شكل أرتال من السيارات تجوب شوارع حلب مطلقة أبواقها، فيما يخرج "الشبيحة" من نوافذها يحملون أعلام النظام وصور "بشار الأسد"، مردِّدين هتافات التأييد للنظام! وكان لتلك المسيرات الليلية نقطة توقف دائمة في الشارع الذي يفصل وحدات المدينة الجامعية شرقاً عن كليات العمارة والآداب في حرم الجامعة الغربي.
لتتحوّل المسيرة إلى مواجهة بالهتافات بين الشبيحة في السيارات وطلاب المدينة الجامعية من وحداتهم السكنية المشرفة على الطريق، والتي كانت تتعدّاها غالباً إلى "شتائم" متبادلة، أو تراشق بالحجارة أو "كاسات الشاي" التي اعتاد طلبة الجامعة إلقاءها من وحداتهم السكنية على المتجمهرين خارجها!
كانت القيادة الأمنية في حلب -آنذاك- قد ركّزتْ جهودها على إحكام سيطرتها على الأحياء "الغربية" في المدينة بعد خروج الأحياء "الشعبية" فيها عن السيطرة، لتشكّل المدينة الجامعية مشكلة حقيقية بالنسبة لخطّتها، والتي كانت تبدو كمنطقة عشوائيات متمرّدة داخل تلك الأحياء! وبات موضوعها يتطلب حسماً سريعاً، وهو ما تم بالفعل بعد عام كامل على أولى مظاهرات مدينة حلب الجامعية في ليلة الأربعاء يوم الثاني من أيار عام 2012، عندما فرّقَتْ قوات حفظ النظام مظاهرة ليلية للطلاب في المدينة الجامعية، والتي انتهت بدخول الطلاب إلى وحداتهم السكنية مواصلين الهتاف والتكبير، لتقتحم قوات من المخابرات الجوية ومخفري الشهباء والجميلية مع شبّيحة آخرين المدينة الجامعية، مطلقين الرصاص في الهواء لإرهاب الطلاب الذين لم يسكتوا بل زادوا من هتافاتهم!
فما كان من عناصر المخابرات والشبيحة إلا أن اقتحموا الوحدة الثامنة –ذات الغالبية من طلاب كلّيّة الطب- مطلقين الرصاص بشكل مباشر على الطلاب، فسقط شهيدان على الفور واعتُقل عدد آخر من الطلاب.
لتنتفض وحدات المدينة الجامعية كلها بالهتاف، والتي أغلق الطلبة أبواب بعضها بالأسرة وكراسي المطالعة خوفاً من مداهمة المقتحمين لها، بينما قام طلاب آخرون بإلقاء قطع البلاط من حمّامات الوحدات على قوات المقتحمين المحتشدين أسفل وحداتهم السكنية، ليصبح إطلاق الرصاص مباشراً على الوحدات من خارجها.
وبعد عراك بالأيدي بين بعض الطلبة من الفرقة الحزبية في الوحدة 17 والطلاب الثائرين، اقتحمَت قوات الشبيحة الوحدة محطِّمين الغرف ومعتقلين كل من وقعت عليه أيديهم من الطلبة، فيما قاموا بإلقاء الطالب "سامر قواس" من الطابق الخامس إلى خارج الوحدة ليفارق الحياة من فوره! كما تمكّنتْ قوات الشبيحة من اقتحام الوحدة 13 بإطلاق الرصاص الحيّ مباشرة على الطلبة، ليصاب ما يقارب 10 طلاب بجروح مختلفة، ويعتصمَ باقي الطلبة في وحداتهم مغلقينها على أنفسهم، ومواجهين محاولات الأمن لاقتحامها بإلقاء الحجارة وكل ما استطاعوا إلقاءه على رؤوس الشبيحة الذين يحاصرونهم داخلها.
كرّرتْ قوات الأمن محاولات اقتحام الوحدات السكنية في ساعات الفجر الأولى من اليوم التالي دون أن تنجح في ذلك، وسط تكبيرات الطلبة المتمترسين في وحداتهم، وهتاف الطالبات من وحداتهن أيضاً.
ورغم أنّ أصوات إطلاق الرصاص قد سُمِعتْ في مدينة حلب كلها تلك الليلة، وأخبار اقتحام الأمن للسكن قد انتشرت، إلا أنّ أيّاً من المظاهرات في أحياء حلب البعيدة لنصرة المدينة الجامعية لم تفلح في فك الحصار عنها، وكلُّ ما استطعنا فعله مِن خارجها كان إدخال بعض المواد الطبية وحقائب الإسعافات الأولية إليها ليلاً عبر فتحة في سورها.
انسحبَتْ قوات الأمن والشبيحة من المدينة الجامعية في الساعة السادسة صباحاً، ليخرج الطلبة من وحداتهم بعدها بنصف ساعة في آخر مظاهرة شهدتها المدينة الجامعية، وصدر قرار رئاسة الجامعة بتعليق الدوام كاملاً في كليات ومعاهد جامعة حلب لمدة عشرة أيام، إضافة إلى إخلاء كلّيٍّ للمدينة الجامعية قبل الساعة الثالثة عصراً.
خرج الطلبة من المدينة الجامعية يحملون حقائبهم مُنهكين بعد ليلة دموية، وعاد كثير منهم إلى مدنهم وبلداتهم لتكون تلك آخر أيامهم الدراسية، بعد أنْ شاهدوا بأعينهم إلى أيّ حدٍّ يمكن أنْ يصل إجرام هذا النظام، ووقف كثير من أبناء حلب الشهباء والطلبة الذين يستأجرون منازلَ في أحيائها أمام أبواب المدينة يشاهدون جموع الطلاب تغادر سكنهم.
وهناك أمام ذلك المشهد المؤلم قرّرْتُ -ككثير غيري- أنّ الحراك السلمي لم يعد يجدي، وأنّ اللغة الوحيدة التي يفهمها هذا النظام هي لغة الرصاص، لأُغادرَ بعدها بفترة قصيرة إلى إعزاز في ريف حلب الشمالي، حيث كان الثوار يحرّرون آخر قلاع النظام المجرم فيها..
لكن تلك قصة أخرى..