أكثر من مراكز البحوث والاستخبارات الغربية والشرقية، تدرك "إيران الملالي" أبعاد مشروعها التوسعي الخادم لهدف الخميني الأساس، وعنوانه "تصدير الثورة الإسلامية". تعرف تبعاته وردات الفعل عليه؛ تجدّد باستمرار مقوّماته مادياً وعسكرياً وبشرياً؛ وتعتمد بجزء كبير في استراتيجيتها على أذرع إجرامية أدلجتها للسيطرة على محيطها الخارجي، كصادّات لاحتواء الداخل والسيطرة عليه، وكأدوات توسعية في تنفيذ الهدف الأساس.
تسعى لاحتواء سياسة الاحتواء التي تنهجها أميركا وأوروبا تجاهها؛ تشبّك مع قوى تتعرض من قِبَلهما للسياسات ذاتها، وتحاول مع تلك القوى تشكيل تحالفات تجعل استراتيجيات الاحتواء فضفاضة وعاجزة عن تحقيق أهدافها كاملة. فإذا كانت أميركا وأوروبا تتبع نوعاً من سياسة الاحتواء في وجه الصين وروسيا، فهي تعتبرهما آلياً حلفاء لها في المصير ذاته. ومن هنا تراها كالدينمو الشاحن لتشكيل نظام عالمي جديد قوامه الصين وروسيا والبرازيل وإيران، ومن يرغب بالانتماء لهذا النادي. وهكذا توسّع ملعبها، لتهرب من الاحتواء، وتعقّد مهمته.
تدرك إيران الملالي أنه على الساحة العالمية ثلاث قوى تتمثل أولاً بأميركا وأوروبا التي تدور في فلكها؛ وثانياً بالعملاق الاقتصادي والبشري الصيني؛ وثالثاً بروسيا وريثة الإمبراطورية السوفييتية التي عيّشت العالم بعد الحربين العالميتين في ظل توازن قطبي شرقي – غربي، حتى انهيارها منذ ثلاثة عقود.
تستغل إيران الملالي الوضع العالمي القائم أيما استغلال. تخلق شيئاً من لا شيء. تستفيد من موقع جغرافي قريب من روسيا استخدمه الغرب في عهد الشاه لحصار السوفييت من الجنوب، وتنمّي علاقة خاصة مع وريثته الطامحة روسيا اليوم
وهي تعلم أيضاً أن تحالف اثنتين من تلك القوى يحسم شكل النظام العالمي الجديد، ويحيّد الثالثة، ليعود عالمنا ويكون برأس واحد يحتوي الجميع؛ وهذا يربكها. أما انكفاء كل قوة على ذاتها، مع استمرارية التناحرات والتوترات فهو الوصفة الأنجع للقطبية المتعددة، تمكّن قوى ومشاريع تماثلها من اللعب في المساحات المتوترة خاصة، ويبقي عالمنا في حالة هلامية يتراقص على صفيح ساخن أحياناً وجليدي في أحيان أخرى، وهذا عزُّ طلبها.
تستغل إيران الملالي الوضع العالمي القائم أيما استغلال. تخلق شيئاً من لا شيء. تستفيد من موقع جغرافي قريب من روسيا استخدمه الغرب في عهد الشاه لحصار السوفييت من الجنوب، وتنمّي علاقة خاصة مع وريثته الطامحة روسيا اليوم. تستغل قربها من التنين الصيني الناهض وحاجته الماسة للنفط الرخيص المتوفر لديها حتى تهريباً. تركّز على مشروع نووي تُزاحم فيه القوتين النوويتين في المنطقة (إسرائيل وباكستان) لتكون حاضرة على طاولة استقطاب السياسية العالمية؛ تبزُّ حلفاءَ وحُماةَ إسرائيل في أميركا وأوروبا، وترعب محيطها العربي. وفي ظلال مشروعها ولحمايته، تمدّد أذرعها في محيطها وتسيطر على عواصمه؛ وفوق كل ذلك تُبْعِد الأنظار عن داخلها المتفكك إثنياً واجتماعياً واقتصادياً، وتخفي استبدادها وبطشها فيه.
مع انطلاق أذرع مشروعها في محيطها؛ وبعد ثماني سنوات من حربها على العراق بدعم إسرائيلي-أميركي؛ وبعد تورّط العراق في ارتكاب المُحرَّم بغزو الكويت؛ وبعد احتلالٍ أميركيٍ للعراق، وتقديمه لإيران لتكون أداةً تخادمية لأميركا؛ تعهدت العمل هناك مستفيدةً من التركيبة العراقية الإثنية، تشفي غليلها وتمارس أحقادها على مَن جرّعوها كأس السم يوماً، وتنطلق باتجاه فتح بوابات محيطها.
في الحالة السورية حصرا، شهد عهد الأسد الأب علاقة متوازنة مع إيران؛ عكّرها وقوفه مع الملالي ودعمهم في حربهم على البلد العربي، العراق؛ إلا أن الرغبة الإسرائيلية بإضعاف العراق، وعدم ارتياح بعض القيادات العربية لعراق صدام حسين، مرّت الأمور مع الأسد على خير باستثناء بعض الخدوش السياسية والأخلاقية التي لحقت به.
تمثّل توازن العلاقة بعدم السماح للملالي بالتغلغل في النسيج السوري ثقافياً أو اجتماعياً أو اقتصادياً أو عسكرياً أو سياسياً، كما هو الحال عليه الآن. وكان ضابط إيقاع تلك العلاقة اللواء محمد ناصيف، ثقة الأسد. ولكن الأمر الذي لم تُضبط قواعده تماما كان امتداد ذراع الملالي عبر سوريا وفوقها باتجاه الضاحية الجنوبية في لبنان على روافع طائفية وإثنية تحت يافطة المحرومين والمستضعفين.
أتى الملالي الفرج الحقيقي لتمدد مشروعهم مع موت حافظ الأسد عام ألفين. وفي العام ذاته أتت المكافأة لأدواتها في لبنان من إسرائيل بخروج الأخيرة من الجنوب اللبناني، ليتمرّس "حزب الله"، اللبناني اسماً، الإيراني جوهراً، سيداً في الجنوب؛ ولاحقاً دويلة تتحكّم بالدولة اللبنانية.
حاول بشار الأسد وأجهزته أن تكون العلاقة متوازنة، وأن يكون لبنان فضاءً خلفياً بتصرفه، كما كان عليه الحال في عهد أبيه؛ ولكن تغلغل وتغوّل إيران وذراعها حزب الله في لبنان وسورياً أخلَّ بموازين العلاقة؛ ليأتي اغتيال الحريري، ويقلب كل تلك الموازين.
تبيّن من خلال تطور القضية السورية أن الملالي على استعداد للتخلي عن أي عنصر حساس في مشروعهم إلا عن "سوريا الأسد"؛ التي رأوا فيها درة تاج مشروعهم. فهي مطيتهم للاقتراب من فلسطين، حيث تزايد منظومة الاستبداد مثلهم في "المقاومة"، لتضحي تلك المنظومة نقطة الانطلاق لاكتمال "الهلال الشيعي"، بحكم كونها "قلب العروبة النابض"، ومَن يسيطر عليها يمتلك الكلمة الفصل في الإقليم.
تحوّل الملالي في سوريا إلى القوة المتصرّفة في القضية السورية. بميليشياتهم الكثيرة وعلى رأسها "حزب الله"، وبدخولهم بنسيج جيش الأسد، وبتغولهم الاقتصادي والاجتماعي والإعلامي
لم يكن موت حافظ الأسد لحظة فارقة في تطوّر مشروعهم، بل وصول الانتفاضة العربية إلى سوريا، حيث كان الملالي من اللحظة الأولى مع منظومة بشار الأسد في مواجهة المد القادم. وأول مساهماتهم كانت في تغيير الموقف استراتيجياً من الربيع العربي ككل. فبعد أن وصفوه بعبارة "النهوض الإسلامي"، عندما حلّ في دول عربية أخرى، أطلقوا عليه -عندما وصل سوريا- "مؤامرة كونية" و"الإرهاب الإسلامي". لقد كان الملالي أصحاب نظرية مواجهة انتفاضة سوريا بالحديد والنار، وإغلاق أي باب لحل سياسي أو تغيير أو تواصل بين شعب سوريا الثائر ونظام الأسد. وعندما عجزوا أمام المد الجماهيري، كانوا وراء التدخل الروسي الهمجي في سوريا.
تحوّل الملالي في سوريا إلى القوة المتصرّفة في القضية السورية. بميليشياتهم الكثيرة وعلى رأسها "حزب الله"، وبدخولهم بنسيج جيش الأسد، وبتغولهم الاقتصادي والاجتماعي والإعلامي، وباحتلالهم لإرادة وعقول البعض، وبتصنيعهم وترويجهم للمخدرات، وبتغييرهم الديموغرافي، وبفرضهم أنفسهم على المسار السياسي، تحوّلوا إلى العنوان والمرجعية لكل أمر يتعلق بسوريا.
باختصار، إذا كانت سوريا الآن محتلّة من قبل قوات أجنبية عديدة وسلطات أمر واقع متعددة؛ وكلها قابلة للزوال؛ إلا أن الاحتلال الإيراني يختلف عن الآخرين تمامًا، لا لوجوده على الأرض فقط، بل لاحتلاله عقول البعض وإرادتهم وبياناتهم.