الأخلاق هي من مجموعة الأشياء التي تسقط في الحرب، وغالباً ما تتحول ساحات المعارك إلى مستنقعات لا أخلاقية، تنمو على زواياها الطحالب التي تعيق تقدم الإنسان على سلم الرقي والتحضر، ليس فقط بين الأطراف المتصارعة، وإنما داخل كل طرف، لدرجة أن الأخلاق عموماً لا يمكن أن تعيش وتستمر بشكلٍ سليم إلا ضمن بيئات يتوفر فيها السلام على المدى الطويل.
شكلت الحرب السورية في السنوات السابقة فرصة لبروز الميول اللاأخلاقية عند بعض الناس من ذوي الحس الأخلاقي المتواضع، سواء على ضفة النظام، أو على ضفة المعارضة السورية.
ولعل أحد أهم المعوقات التي انعكست سلباً على الثورة السورية، برأيي، هو تورط عدد جيد من اللاأخلاقيين في صفوفها وبيئاتها الاجتماعية، مما سهل تفكك التلاحم الاجتماعي ضمن هذه البيئات، وبروز الكثير من السلوكيات التي استطاع النظام السوري استثمارها على صعيد البيئات التي يسيطر عليها، بهدف إخافتها من مجتمعات الثورة، أو على صعيد الإعلام الخارجي، محاولاً تصدير صورة سيئة عن مجتمعات الثورة تخدمه عالمياً، ويبدو أنه نجح إلى درجة جيدة في هذا.
على الرغم من وجود الكثير من الأخلاقيين، ولكن كما يُقال اجتماعياً إن وجود ذبابة واحدة فقط في الطنجرة يكفي لرمي الطبخة كلها.
دفعت الحرب ملايين السوريين إلى مغادرة بلادهم متجهين إلى البلدان المجاورة والبعيدة بحثاً عن الأمان، واستطاعوا مع مرور سنوات الحرب إنشاء مجتمعات صغيرة في أماكن اللجوء التي سرعان ما صارت مكاناً تتهافت عليه المنظمات والمؤسسات العربية، والأجنبية، بهدف المساعدة، سواء كان نية بعضها سليمة أو غير سليم.
وقد وفرت هذه المنظمات والمؤسسات خلال السنوات السابقة، مئات الفرص من العمل للسوريين.
رزق جارنا الكبير بأربعة شبان في حياته، ورحل قبل اندلاع الثورة السورية، وخلال الحرب نزح ثلاثة من الإخوة مع عائلاتهم إلى لبنان وسوريا والأردن، أما رابعهم، البدين، وهو أصغرهم ــ وسوف تثبت لنا سنوات الحرب أنه صغير في كل شيء ــ غامر وعبر البحر إلى أوروبا، وقد شجعه على ذلك عدم وجود عائلة له، على خلاف إخوته.
وصل صغير الإخوة إلى أوروبا، وسرعان ما استخرج الأوراق المطلوبة التي تثبت أنه لاجئ، وصار يتقاضى راتباً يسمح له أن يعيش حياةً كريمة، وهو مستلقٍ على الأريكة يعاكس الفتيات في فضاء عالم الفيسبوك
وصل صغير الإخوة إلى أوروبا، وسرعان ما استخرج الأوراق المطلوبة التي تثبت أنه لاجئ، وصار يتقاضى راتباً يسمح له أن يعيش حياةً كريمة، وهو مستلقٍ على الأريكة يعاكس الفتيات في فضاء عالم الفيسبوك. في الوقت ذاته كان الإخوة الثلاثة الكبار، بين تركيا ولبنان والأردن، مع جيران لهم ومعارف وأصدقاء وغير أصدقاء، يكافحون مع زوجاتهم وأولادهم، ليلاً نهاراً، لتأمين فرصة عمل تستر أيامهم وتكفيهم الحاجة، ليحصل بعضُهم على عمل في ظروف قد لا تكون مثالية غالباً، ولكنها تكفي لتأمين حياتهم وحياة أبنائهم.. كما حصل مع الإخوة الثلاثة الكبار.
شقيقهم الصغير، البدين، المستلقي على أريكته في أوروبا، تحول على الفيسبوك فجأة إلى محكمة تفتيش بكامل قضاتها وعناصرها وأدوات الإعدام، صار يراقب إخوته ويراقب بقية المعارف عن كثب، ليبدأ بابتداع تهم أخلاقية من الحجم الكبير ليلصقها بهم، وينشرها على الفيسبوك.
مرّة يكتب على صفحته أن فلاناً يعمل في مؤسسة أمريكية، إذن هو عميل لأمريكا، والآخر يعمل في منظمة تمولها أستراليا إذن هو عميل لأستراليا، أحدهم يعمل في منظمة تدعمها قطر لهذا هو عميل لقطر، وذلك موظف في منظمة تدعمها تركيا إذن هو عميل لتركيا. والذين عثروا على فرص عمل في مؤسسات ومنظمات تدعمها السعودية والإمارات وانكلترا، صاروا في محكمة التفتيش التابعة للبدين الصغير، عملاء للسعودية والإمارات والإنكليز. دون أن يكلف نفسه عناء مراعاة أوضاع الآخرين، والانتباه إلى أن الآلاف من السوريين الذين يعملون في مؤسسات ومنظمات تديرها أو تمولها دول عربية أو أجنبية، يعملون فيها بهدف تأمين حياتهم اليومية، وليس بالضرورة تبنيهم للأجندة المعلنة وغير المعلنة لتلك الدول، ولا يسمح وقتهم خلال يومهم بالاستلقاء على الأريكة وإصدار أحكام أخلاقية بالعمالة، على هذا وذاك، والتورط بفرز أخلاقي مزاجي، لا يتورط فيه من لديه قضية حقيقية ينشغل فيها.
يسهل على مثل صاحبنا السابق المستلقي على أريكته طوال اليوم، أو من الحانة التي يرتادها على حساب الراتب الذي يتقاضاه مجاناً، دون عمل، أن ينشئ محاكم تفتيش، ويطارد العملاء
يسهل على مثل صاحبنا السابق المستلقي على أريكته طوال اليوم، أو من الحانة التي يرتادها على حساب الراتب الذي يتقاضاه مجاناً، دون عمل، أن ينشئ محاكم تفتيش، ويطارد العملاء، بعد أن يفرز الناس إلى عملاء وغير عملاء، علّه يكافح آفة الملل المصاب بها ليس إلا.
يكافح الكثير من اللاجئين السوريين، وخصوصاً في تركيا ولبنان والأردن، من أجل حياة كريمة قدر المستطاع، حياة تحفظ لهم أنفسهم وعائلاتهم، من خلال عملهم في عشرات المنظمات التي تدعمها أو تمولها دول عربية أو أجنبية، بعيداً عن التجاذبات الدولية والصراعات بين المصالح الدولية.
عودٌ على بدء، لا بد أن نهمس بإذن الأخ الصغير البدين، من باب الأخلاق أيضاً:
تفضل، أنشئ منظمات، ومولها، ووفر فرص العمل لعشرات الآلاف من السوريين، وبعدها علق مشنقة الأخلاق التي تهوى تعليقها.