يحتالُ قادةُ أوروبا على الانقسام في المواقف من عديد القضايا بين دولهم واختلاف المصالح الخاصة بين هذه الدولة وتلك، من خلال ابتكار أساليب جديدة تحاول التقليل من القيود البيروقراطية لأطر التعاون الرسمية، أي مثل تلك التي تفرضها منظمات كبرى مثل حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي. في هذا الصدد تمّ إنشاء المجموعة السياسية الأوروبية في تشرين الأول / أكتوبر من عام 2023 فيما يبدو أنّه استجابة للتحديات الأمنية والاقتصادية المتنامية التي تشهدها المنطقة، خاصّة مع استمرار الحرب الروسية على أوكرانيا وارتفاع مؤشرات تصاعد النزاع في كوسوفو ومخاطر اللجوء الداخلي والهجرة غير الشرعية المتنامية باتجاه قارّتهم. وفي ظلّ هذه الأجواء من التوترات العالمية والإقليمية، انعقدت القمّة الثانية للمجموعة يوم الخميس 1/6/2023 في مولدافيا المرعوبة من العملاق الروسي المتحفّز لقضمها كما بقيّة دول البلطيق.
حمل سوناك في جعبته ملفًا مهمًا يدغدغ مشاعر غالبية الأوروبيين حُكّامًا ومحكومين، ورفع شعار "أوقفوا قوارب الهجرة" لمشروع حماية "حدودنا" خوفًا من التأثيرات النفسيّة المدمّرة للهجرة غير الشرعيّة
ينسى بعضُ هؤلاء القادة، وأخصّ منهم أولئك القادمين من أصول غير أوروبية مثل رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك، أو يتناسى بالأحرى مقدار الثراء الذي تحمله الهجراتُ بين بلدان العالم المختلفة. كما يَغفلُ هؤلاء عن مسؤولية البلدان الأوروبية بشكلٍ رئيسٍ وأساسي عن كثيرٍ من أسباب هذه الهجرات تاريخيًا بسبب دورها الاستعماري، وحاضرًا بسبب سياساتها الواضحة في السكوت عن تجاوزات الأنظمة الديكتاتورية في أفريقيا وآسيا، لا بل ودعمها في كثيرٍ من الأحيان وحتى في العمل على الإطاحة بالتجارب الديمقراطية في بعضها كما كان نهج فرنسا مع عديد الدول الأفريقية. لعلّ في أعماقِ النفس البشرية عُقدٌ لا يمكن تجاوزها بسهولة، حتى ولو وصل ابن المهاجرين إلى سُدّة أعلى منصب سياسي في واحدة من أقوى دول العالم. ما الذي يمكن أن يضيء على مثل هذه الخفايا مثل علم النفس الذي يترصّد نوازع الصراع الداخلي بين موجبات الفخر بالوصول ومؤشرات الخوف من الانتكاس بسبب الأصول؟
حمل سوناك في جعبته ملفًا مهمًا يدغدغ مشاعر غالبية الأوروبيين حُكّامًا ومحكومين، ورفع شعار "أوقفوا قوارب الهجرة" لمشروع حماية "حدودنا" خوفًا من التأثيرات النفسيّة المدمّرة للهجرة غير الشرعيّة. لا يهمّنا الآن وفي هذه العُجالة مقاربة مشكلات القارة العجوز في قضايا الأمن والاقتصاد والسياسة، فالحروب على أبوابها باتت أمرًا واقعًا، والتضخم أصاب مَوَاطنَ الاستقرار الاجتماعي الأوروبي في الصميم، وهو ما سيؤدي بالضرورة إلى تغييرات سياسية ناتجة عن المزاج العام في تحميل المسؤولية للأحزاب المختلفة، وهذا أحد أشكال الانزياح نحو اليمين الذي يستسهل إلقاء اللوم على المهاجرين بدل البحث عن الأسباب الحقيقية الكامنة وراء هذه الأزمات. نستهدف هنا الإضاءة على جزئيّة بسيطة جدًا تتمثل في خوف المهاجر الذي وصل "برّ الأمان" من تدفّق المهاجرين إلى هذا البر.
الخوف من المهاجرين ليس ظاهرةً اجتماعية خاصّة بشرائح واسعة من السكان الأوروبيين فقط، بل هي تشمل، ولأسباب نفسية كثيرة، أطيافًا واسعة من المهاجرين القدامى، ولهذا الخوف أسبابه المتباينة بين الطرفين. يبدو أنّ قدوم "الغرباء" من بيئات بعيدةٍ، يحفّز مجددًا لدى أقرانهم ممن سبقوهم بالوصول، ذاكرة حاولوا طويلًا دفن تفاصيلها تحت ركام اندماجهم وإنجازاتهم في المجتمعات الأوروبية التي يعيشون بها. تعيدهم صور الوجوه المذهولة والملابس البسيطة وبعض السلوكيات العفوية غير المنضبطة مع السائد، إلى ما مرّوا به قبل سنوات عند وصولهم إلى هذه البلاد، ينكأ هذا في نفوس البعض منهم جروح الغربة التي لا بدّ منها مع كل انخلاعٍ من الجذور. وبدل أن يكون ردّ الفعل، كما هو متوقّعٌ بالمنطق والمعادلات الأخلاقية، هو التضامن مع هؤلاء وتقديم العون والإرشاد والرعاية لهم حتى يتوفروا على أسباب الاستقرار، نجد العكس هو تمامًا عند كثيرٍ منهم، أي النبذ والخجل من التعاطي المباشر معهم ومحاولة الابتعاد عنهم قدر الإمكان.
قد يكون من حقّ ريشي سوناك، وهو الذي وُلدَ لأبوين من أصولٍ هنديّة بنجابية في ساوث هامبتون، وترعرع في حضن الثقافة البريطانية العريقة، أن يعتقد بوجوب حماية الحدود الأوروبيّة من الهجرة غير الشرعية باعتبارها خطرًا يتهدد اقتصاد هذه مجتمعات، لكن ألا يحقّ لأي مهاجرٍ أن يتساءل عن أسباب تشجيع هذه البلدان على الهجرة الشرعية مقابل محاربتها تلك غير الشرعية؟ أليس في الأولى نهبٌ صريحٌ للكوادر المؤهّلة من بلدان آسيا وأفريقيا وبالتالي إمعانٌ في إفقارها ودفعها نحو دوّامة الأزمات؟ أليس عليها بالمقابل أن تتحمّل نصيبًا من مسؤولية إعادة إدماج من تضرروا من هذا السلوك غير العادل في مجتمعات دولها التي تنعم بوافر فضل قيمة ثروات بلدان آسيا وأفريقيا ذاتها؟ أليس عدم استقرار تلك البلدان سياسيًا واقتصاديًا يشكلُ بعضًا من أهمّ أسباب الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا؟
لماذا يُحكى عن شجاعة الأوكرانيين مثلًا، والتي هي مثار إعجابٍ حقًا، بينما يُنظر للقادمين من مناطق النزاع الأخرى بدرجة أقلّ تعاطفًا؟
لو كان أمرُ الهجرة غير الشرعية متاحًا لبلدان مثل كندا وأميركا وأستراليا واليابان وماليزيا ونيوزيلندا لما ادّخر المهاجرون سبيلًا، لكنّ أوروبا، والغربية منها على وجه التحديد، هي الأقرب لمواطن النزاع من جهة، وهي الأكثر تأهيلًا من حيثُ البنى الاقتصادية والتشريعية على توفير الحماية والملاذ الآمن لهذه الفئات المهمّشة والمستضعفة من البشر من جهة ثانية. هل يبرّر هذا لقادة أوروبا التشديد على حماية حدوهم من غزو الجنوبيين، بينما يبذلون قصارى جهدهم لدعم الأوكرانيين دون أن يخدش هذا جوهر قيم حقوق الإنسان التي ينافحُ هؤلاء القادة عنها في المحافل الدولية ويرفعونها في مواجهة الدول الأخرى في تلك القارات التعيسة شعوبُها؟ ثمّ لماذا يُحكى عن شجاعة الأوكرانيين مثلًا، والتي هي مثار إعجابٍ حقًا، بينما يُنظر للقادمين من مناطق النزاع الأخرى بدرجة أقلّ تعاطفًا؟ أليس هناك فرق بين من يحارب عدوًّا خارجيًا مثل الروس وبين من يهرب من حرب أنظمة حكم بلاده الجائرة التي يتعامل معها هؤلاء القادة الأوروبيون ذاتهم؟ ميزان العدل يتأرجح مع الأهواء لا مع القيم والمبادئ، ولن يستقرّ في سلوك الدول ليعطي البشر على اختلاف ألوانهم نفس الرعاية، حتى يستقرّ في ضمير الإنسانيّة أنّ جوهر البشر واحدٌ رغم تنوّعهم، وحتى يذهب خوف أبناء المهاجرين القدامى من المهاجرين الجدد.