إيران التي تفاوض بدماء السوريين والفلسطينيين

2023.10.31 | 08:04 دمشق

آخر تحديث: 31.10.2023 | 08:04 دمشق

gidhk
+A
حجم الخط
-A

لطالما كانت وما زالت فلسطين حمّالة أوجاع وآلام جسام. فلسطين التي تلامس وجداننا العربي بقضيتها ومصير شعبها، بتنا كسوريين نعيش آلامها منذ اثني عشر عامًا حياة يومية من التشرد والتهجير والقتل الجماعي والفردي. في المقابل كان الوعي العربي يقع تحت وطأة تناقض حاد بين شعوره العميق بالوجع الفلسطيني وبين مقاربته لطرق الحل الممكنة على مستويات السياسة الدولية والإقليمية والعربية. حيث باتت تتكشف مدى تحول قضية الشعب الفلسطيني لمجرد أداة تتلاعب بالوجدان الشعبي مقابل جني المكاسب السياسية لحكام المنطقة من سلطة الاستبداد والعسكر، والتي طالما رفعت راية تحرير القدس لكنها كانت تهجر سكان حلب والغوطة وداريا وتدمر المدن السورية.

إيران اللاعب الأساسي الأخطر في المنطقة تمتد أذرعها في كل مدن الشرق العربي خاصة في سوريا والعراق ولبنان، وفي فلسطين في غزة. إيران صاحبة المشروع التوسعي السياسي المرفوع على حوامل عقائدية والتي تعمل على بزار دول العالم من خلال تموضعها في عواصم دول الشرق وعلى حساب قضاياهم ومصير شعوب المنطقة برمتها.

فما إن بدأت عملية طوفان الأقصى، حتى تلقفتها الإدارة الأميركية بالقول على لسان بلينكن إن إيران لا علاقة لها بما يجري في غزة، وذلك في إشارة لاستثناء إيران من أية معادلة حرب إقليمية قد تحدث في المنطقة. والسؤال المطروح، ماذا ستستفيد إيران من العملية بذاتها؟ وماذا يعني تلقيها للإشارة الأميركية التي تشير إلى بدء مرحلة جديدة من التفاوض الإيراني الأميركي؟

في الخلفية التاريخية، لم يكن التمدد الإيراني في سوريا، ومن قبله في العراق مجرد صدفة أو رغبة فقط لدى قادة ما يسمى بهتانًا "الثورة الإيرانية"، وهي التي سعت لتصدير شرعياتها العسكرتارية "الثوروية" لكل دول الجوار. بل كان تحت العين الأميركية مباشرة خاصة منذ عام 2003، منذ غزو العراق ومن ثم احتلاله. فسواء كان ثمة اتفاق مبطن أو التقاء مصالح بين كل من طهران وواشنطن ولندن، فقد تم استثمار الدور الإيراني في تفكيك العراق وتحويله إلى مستنقع للمحاصصة الطائفية والإجهاز على كامل مقدراته العلمية وثروته الطبيعية. وهذا لا يعني أبدًا أن العراق لم يكن يعاني من ديكتاتورية نظام حكمها، بل يعني تمامًا أن التمدد الإيراني كان وظيفيًا فيه تم استثماره من قبل واشنطن ولندن، وهو ذاته ما يفسر غض النظر الذي مارسته واشنطن عن تمدد الميليشيات التابعة لإيران في سوريا وتحت عينها.

فما إن بدأت عملية طوفان الأقصى، حتى تلقفتها الإدارة الأميركية بالقول على لسان بلينكن إن إيران لا علاقة لها بما يجري في غزة، وذلك في إشارة لاستثناء إيران من أية معادلة حرب إقليمية قد تحدث في المنطقة

الإجابة عن سؤال المتحولات الإقليمية في الشرق الأوسط سؤال ليس بحكم المتاح الإجابة عليه ببساطة. لكن عند تدقيق الدور الإيراني منذ عام 2011، فهي كانت المساهم الأكبر في بتر الربيع العربي وقطعه في اليمن وسوريا ولبنان والعراق. وليس فقط، بل تأجيج الصراع الديني وتغليب لغة القتل الدينية بمرجعية شعائر وطقوس تعود لما قبل 1400 عام. فقد عملت على شيطنة العنف والعنف المضاد لدرجة العودة لكل أشكال القتل الهمجية ومفهوم الغزوات والتهجير أيضًا. فإن كانت موسكو هي من ساعدت هذه المرة بغطائها الجوي هذا التمدد الإيراني بعد عام 2015 في سوريا، فإنه كان مرقوبًا جيداُ وملحوظًا أيضا من قبل واشنطن وصناع القرار العالمي قبله، وهي التي فاوضت إيران على ملفها النووي مقابل هذا التمدد وقتها! في حين إن الاتفاق الذي تم توقيعه بين موسكو وواشنطن وبعض عواصم العالم وأهمهما "تل أبيب" في إسرائيل على ضرورة تحجيم الدور الإيراني في المنطقة عام 2018، كان أشبه بلعبة في دماء أبناء المنطقة وشعوبها.  فبعد الإجهاز على معظم مقومات الشعب السوري ومشروعه الوطني وحوامله، واستفراد روسيا في الملف السوري جزئيًا بموافقة كل من تركيا وإيران على حصص جزئية فيه، أتت التوافقات الدولية على تحجيم الدور الإيراني في سوريا وكأنها تحمل عنوان كفاية الدور الوظيفي لإيران في تفتيت المنطقة والاجهاز على مشروع الدولة الوطنية في سوريا، وتعطيل أي مثيل لها في العراق ولبنان، وتعطيل مشروع حل الدولتين في فلسطين. لكن إيران تفاوض بحكم الوجود العسكري على الأرض، وأية محاولة لتحجيم هذا الوجود تقابله بتهديد أمن الخليج العربي وافتعال حرب إقليمية واسعة في المنطقة وهذا ما يتفادها الجميع لليوم، وهو سر الرسالة التي أرسلتها أميركيا عبر بلينكن لإيران.

منذ بدء الحديث عن محاولة أميركا لقطع طريق البوكمال، المنفذ البري للميليشيات الإيرانية للعمق السوري واللبناني بدايات هذا العام، عادت معادلات التحول الإقليمي في المنطقة للظهور مجددًا. وعادت إيران لمحاولة التفاوض على مناطق وجودها فيها بأكثر من طريقة. يبدو أن آخرها قبض ثمن تهجير سكان غزة، مقابل أن تبقي على مناطق نفوذها سوريا. فهل هذه هي المعادلة التي ستفرضها إيران وتلقفتها أميركيا لمنع اندلاع حرب إقليمية واسعة بالمنطقة؟ وهل دول الخليج العربي سترضى بهذه الشروط، وهي المتضررة من تحويل سوريا لبؤرة لتهريب المخدرات إليها، وزيادة الخطر الإيراني على أمنها وهي المهددة بالخليج ومن اليمن؟

ورقة غزة اليوم بيد إيران ورقة للهروب للأمام، فهي بذلك تضحي بذراعها المتحركة حماس، مقابل بقائها في سوريا، فهي تدرك أنها مقبلة للتفاوض على رفض وجودها في الجنوب السوري برمته بناء على إصرار الأردن ودول الخليج على ذلك، واشتداد المظاهرات السلمية في السويداء المطالبة بالتغيير السياسي العام في سوريا. وليس أمام إيران عندها زج كل من النظام السوري وحزب الله في معادلة الحرب القابلة للتمدد وبقائها ضابط إيقاعها من بعيد. لتبقى إيران تعتمد على سياسة المتحورات البينية وإدارة أذرعها واستخدامها في عمليات عسكرية جزئية تهدد أمن المنطقة واستقرارها، وتجهض أية بوابة للحلول السياسية الممكنة، وذلك لتبقِ على تمددها العسكري فيها تفاوض من خلاله وبدماء شعوبنا بدل انكفائها لداخلها ويصبح التفاوض في عقر دارها.

لم يزل الشعور والوجدان الشعبي العربي عامة والسوري والفلسطيني بخاصة، محط صهر وسحق يقع في تناقض حاد بين حق الشعب الفلسطيني وبين أدوات الصراع العسكرية المستثمرة فيه وعلى حسابه ضد الشعب ذاته. والرابح الوحيد هو إيران والنظام السوري لليوم، والخاسر هم الشعوب. بينما خروج إيران وميليشياتها من المنطقة وتحقق مشروع الدولة الوطنية في كل من سوريا ولبنان والعراق وحل الدولتين في فلسطين سيغير وجه المنطقة تجاه الاستقرار والسلام. وهذا ما ستحدده سير الوقائع في الأيام المقبلة والتي تنذر بمتغيرات مفصلية في شكلها المقبل، وعلى شعوب المنطقة أن تحسم أمرها تجاه استحقاق بناء دولها الوطنية وهذا لا يتناقض أبداً مع جوهر القضية الفلسطينية بل يعزز من قيمتها ويغير طريقة إدارة صراعها.

كلمات مفتاحية