إلغاء الخدمة الإلزامية وإعادة "تزوير" الأسد

2024.07.01 | 06:11 دمشق

15333333333333
+A
حجم الخط
-A

لا تزال أمام الجيش السوري مهمات كثيرة يتوجب عليه إتمامها قبل اتخاذ القرارات بإلغاء الخدمة الإلزامية والاحتياط أو تخفيض أو تحديد مدة تلك الخدمة، فقضية الجولان التي تعيّش النظام وجيشه عليها لسنوات طويلة ما تزال قائمة بل وباتت معقدة أكثر من ذي قبل بعد أن تلاشت احتمالات السلام الذي توارى النظام خلفه لسنوات طويلة.

ومن جانب آخر، فإن الحاجة لجيش نظامي كبير وقوي وكذلك الاحتياج للخدمة الإلزامية تبدو مسألة أكثر إلحاحاً في ظل الاحتلالات الكثيرة للأراضي السورية، إن كان النظام وجيشه مهمومين فعلاً في الدفاع عن سوريا وإن كان هذا الأمر أولوية فعلية من أولوياتهما، بل إن المرحلتين الحالية والمقبلة هما الأكثر خطورة واحتياجاً للجيش كقوة معول عليها "حماية الوطن".

في هذا السياق يمكن تناول طريقة النظام في التعامل مع مفهوم الجيش، فقبل الثورة وفي الوقت الذي كان فيه الأسد الوريث يدعي أنه يعد العدة لاسترداد الجولان، كانت الخدمة الإلزامية محددة ورخوة وقابلة للمتاجرة والتفاوض بين المؤسسة العسكرية والمكلف بأداء تلك الخدمة، كما أن مؤسسات الجيش برمتها تحولت حينها لتغدو مجالاً أساسياً للارتزاق والتكسب من قبل الضباط ومسؤولي المؤسسة العسكرية من خلال الفساد الذي انتشر بشكل علني في مؤسسات الجيش برمتها من شعب التجنيد في القرى الصغيرة وصولاً إلى وزارة الدفاع وهيئة الأركان.

حينها تحولت الخدمة الإلزامية إلى حالة تجارية بحتة وبشكل علني ومكشوف وليس على استحياء أو في الخفاء، حيث تم استنزاف ميزانية الجيش من خلال النهب والسرقة، وتم التعامل مع المكلفين على أنهم جزء من السلعة التي تم تداولها تحت عنوان حماية الوطن، وهو ما يدل بما لا يدع مجالاً للشك أن النظام حينها وضع فكرة الحرب مع إسرائيل خلف ظهره، إن كانت تلك الفكرة قد راودته أصلاً.

واليوم، وبعد انتهاء الأسد من تصفية الثورة -عسكرياً على الأقل- يعود الأسد للتعامل مع الجيش ومع الخدمة الإلزامية على أنهما أمران ثانويان، رغم حالة القداسة التي حاول إسباغها على الجيش كرمز أساسي للوطن يأتي بالتسلسل بعد الرئيس وهذا يؤكد أيضاً أن الخدمة الإلزامية والاحتياطية تم التقيد بهما والتشدد في تنفيذهما نتيجة احتياج الأسد لعناصر وجنود يقدمهم قرباناً على مذبح بقائه، فقط حينما قامت الثورة تمسك الأسد بالجيش والخدمة الإلزامية والاحتياطية وجعلهما مفتوحتين وغير محددتين بفترة معينة، فمفهوم حماية الوطن ليست مفردة من مفردات قاموس النظام، وإنما يتم تداولها للاستهلاك فقط، فحاجة النظام للجيش تتعاظم فقط في حال تعرضه هو للخطر وليس حين يتعرض الوطن للخطر.

لا يترك بشار الأسد في خطاباته -التي يحولها إلى محاضرات كوميدية غالباً- مفهوماً إلا ويفككه ويشرحه ويحيله إلى مصادره ويعيد بناءه وتعريفه.

ثمة شبهات عديدة تحوم حول الأسباب التي دفعت النظام للتفكير في إصدار تلك التحديثات المزمع إنشاؤها والقوانين الجديدة المرتقبة فيما يتعلق بالخدمة الإلزامية والاحتياطية، لأن النظام لا يقدم على خطوة تصب في مصلحة الشعب أو الوطن، وثمة أهداف كثيرة يسعى لتحقيقها من خلال توجهه الجديد، ولكن المسألة الأكثر أهمية فيما يتعلق بالقوانين الجديدة حول الخدمة الإلزامية والاحتياطية بالنسبة للنظام اليوم تتجلى في تعزيز فكرة انتصاره من خلال تسريح الاحتياط وتحديد فترة الخدمة الإلزامية وفتح البدل النقدي، وهي إجراءات تتخذها الدول المرتاحة والمستقرة والبعيدة عن احتمالات الحرب، وهذا ما يريد النظام الترويج له وتوجيه رسالة من خلاله للداخل والخارج في سياق سعيه لإعادة تدويره، أو بشكل أدق: إعادة تزويره".

وفي هذا السياق لا بأس أن نستعير فلسفة بشار الأسد ذاته في طرح الأسئلة وتفكيك المفاهيم، حيث لا يترك الأسد في خطاباته -التي يحولها إلى محاضرات كوميدية غالباً- مفهوماً إلا ويفككه ويشرحه ويحيله إلى مصادره ويعيد بناءه وتعريفه، وخاصة حينما يتعلق الأمر بمفهوم قابل لوجهات النظر وهو مما يثير شهية الأسد للسفسطة والثرثرة والتنظير والأستذة.

وعليه، كان على الأسد، قبل أي يحدث تعديلاته الكوميدية على نظام الخدمة الإلزامية، كان عليه أن يتعامل مع مفهوم الخدمة الإلزامية بذات الطريقة التقليدية التي ينظر بها للموضوعات الأقل أهمية ووفق ذات المنهج الذي يتعامل به مع المفاهيم الأخرى ويسأل أسئلته النمطية السفسطائية والتي ستبدو في هذا السياق منطقية وموضوعية وضرورية من مثل: ما هي الخدمة الإلزامية؟ ولماذا هي إلزامية؟ وما الهدف منها؟ وهل هي خدمة من أجل الوطن وحمايته أم من أجل توظيف المجندين في خدمة السلطة وخدمة العائلة؟

كان على الأسد أن يسأل أيضاً: ما الذي يفعله الجيش السوري بالضبط، ما هي مهماته الفعلية، وما الذي يفعله الضباط الكبار والمسؤولون في المؤسسة العسكرية، وماذا يعني مفهوم الوطن لأولئك الضباط والمسؤولين، وهل الجيش مكرس لحماية الوطن، وما الذي قام به منذ استيلاء العائلة على السلطة، كم حرباً خاض، وما هي الأراضي المحتلة التي استردها، وما الأخطار التي استطاع منع وقوعها؟

في تاريخ الخدمة الإلزامية أثناء حكم عائلة الأسد، ساد مفهومان رئيسيان متشابهان لفظاً ومضموناً وهما:"التفييش والتعفيش"، الأول نشأ في فترة السلم حيث قضى مئات الآلاف من المكلفين خدمتهم العسكرية في بيوتهم لقاء مبالغ مالية متفق عليها تدفع للضباط المسؤولين عن أولئك المجندين، وجنى أولئك الضباط ثروات طائلة من ظاهرة التفييش والتي كانت تمارس علناً ودون تدخل من القيادة لتخفيف تلك الظاهرة أو منعها، والمفهوم الثاني "التعفيش" ساد أثناء الحرب التي شنها جيش النظام على السوريين وتمت بدعم ومباركة ومشاركة من النظام وأجهزته سعياً لتحقيق هدفين، يتلخص أولهما بفتح المجال أمام عناصر الجيش للارتزاق وتعويض حالة الفقر التي عاشوها بسبب الرواتب الضئيلة التي كانوا يتقاضونها، والثاني هو مزيد من الإرهاب والنكاية بالمعارضين الذين تجرؤوا على النظام، وبناء على ذلك تم التعامل مع ظاهرة التعفيش على أنها حالة من حالات جمع الغنائم، على أنها حالة مشروعة لأن النظام كان يتعامل مع أولئك المنتفضين المطالبين بالتحرر من حكم العائلة على أنهم أعداء خارجيون وليسوا سوريين يتوجب على الجيش أن يحميهم ويحمي ممتلكاتهم.

ستفتح القوانين المتعلقة بالخدمة الإلزامية سوقاً جديدة للمضاربات في مختلف المؤسسات، أقلها مؤسسات السجل المدني والنفوس، حيث سيسعى الكثير من الشباب لتكبير أعمارهم من أجل دفع البدل النقدي وسيسهل النظام لموظفي النفوس تلك المهمة لتوسيع رقعة الفساد.

إن طرح النظام لمفهوم الجيش الاحترافي كبديل عن الجيش النظامي ما هو في الحقيقة سوى إعلان صريح عن تحويل الجيش إلى ميليشيا رسمية تختلف عن الميليشيا غير الرسمية التي كان عليها الجيش النظامي سابقاً في أنها تحصر المكاسب المالية والرشاوي والفساد والسرقة في مجموعة قليلة من أتباع النظام.

وبالطبع، لن يدع النظام تلك التغييرات تمر من دون استثمارها مالياً، ولا سيما ما يتعلق بالبدل النقدي حيث ستشكل تلك القوانين المرتقبة مزاداً علنياً يخضع لتفسيرات المسؤولين عن تنفيذها وسلطاتهم، وستفتح القوانين المتعلقة بالخدمة الإلزامية سوقاً جديدة للمضاربات في مختلف المؤسسات، أقلها مؤسسات السجل المدني والنفوس، حيث سيسعى الكثير من الشباب لتكبير أعمارهم من أجل دفع البدل النقدي وسيسهل النظام لموظفي النفوس تلك المهمة لتوسيع رقعة الفساد كما يحدث مع كل القوانين الوهمية التي يتم إصدارها بدافع ابتكار أسواق جديدة للرشوة والسرقة والنهب.

لقد استهلك جيش الأسد ميزانية البلد لفترات طويلة، في السلم وأثناء الثورة، ولكنه -مع كل ذلك الاستنزاف الذي سببه للميزانية، لم يقدم خدمة واحدة للوطن، ولم يرد على هجوم إسرائيلي ولم يتصدَّ -إلا من خلال البيانات-، للاعتداءات شبه اليومية التي تطول سوريا منذ سنوات، واقتصرت مهمة المكلفين بالخدمة الإلزامية على تنفيذ أوامر قتل العزل ومحاصرة المدن السورية ولعب دور البيادق في رقعة شطرنج الأسد.

لا يمكن لحكم وراثي عائلي يسعى للأبدية، ويستجلب القوى الخارجية ويرهن قراره لها، أن يكون مهموماً بالوطن، والتحديثات المرتقبة على آليات التجنيد الإجباري لن تنعكس إيجاباً على حياة السوريين لا سيما المطلوبين للخدمة العسكرية، لأن النظام الذي تعود على ابتزاز الشعب والتحكم بحياته ومصيره، لن يتحول في غمضة عين إلى نظام وطني تهمه مصلحة الشعب ومصلحة الوطن.