بعد قمة هلسنكي في تموز الماضي بين الرئيسين ترامب وبوتين، التي لم يُعلّق فيها الرئيسان على مشكلة بقاء الأسد بقدر ما ركّزا على محاربة الإرهاب، وقبلها عند زيارة نتنياهو لموسكو في نفس الشهر، الذي صرّح بأنه "لا توجد مشكلة في تعامل إسرائيل مع نظام بشار الأسد"، وبأن إسرائيل لم تعرف أي مشكلة مع النظام السوري في عهد الأب والابن، على مدى أكثر من أربعة عقود، حيث لم تُطلق رصاصة واحدة من هضبة الجولان، وبذلك فهي الحدود الأكثر أماناً، مما بدا أن العالم مهيأ أكثر لقبول التعامل مع طاغية دمشق.
الأسبوع الماضي، وفي نفس اليوم، 15 من تشرين الأول، تم إعادة افتتاح معبرين: الأول تحت إشراف الأمم المتحدة
الشرائح التي كانت "حاضنة الفوضى والإرهاب" هي أبناء المناطق التي كانت تحت سيطرة المعارضة، وخضعت للنظام مؤخراً نتيجة للقصف الروسي المرعب لاتفاقات "تسوية"
ممثلة بقوات الفصل (الأندوف) مع إسرائيل، والثاني معبر نصيب مع الأردن. وكأنها إشارات على جاهزية هذه الدول على التعامل مع نظام الأسد، وهي الإشارات التي استغلها النظام إلى أقصى حد.
ومنذ حوالي أسبوعين، في يوم الأحد، 7 من تشرين الأول، تحدث بشار الأسد، خلال اجتماع لما يُسمى اللجنة المركزية لحزب البعث، عن ضرورة "إعادة تأهيل بعض شرائح المجتمع السوري" التي كانت حاضنة للإرهاب والفوضى. وذلك كي لا تبقى هذه الشرائح ثغرةً يمكن من خلالها استهداف سوريا في المستقبل. ومن وجهة نظره فالشرائح التي كانت "حاضنة الفوضى والإرهاب" هي أبناء المناطق التي كانت تحت سيطرة المعارضة، وخضعت للنظام مؤخراً نتيجة للقصف المرعب الروسي لاتفاقات "تسوية"، سواء مع قوات الأسد مباشرة، أو مع روسيا (وهو الشكل الأكثر شيوعاً)، والذين فضلوا البقاء في بيوتهم على النزوح إلى المخيمات.
منذ الثمانينيات، كان نهج النظام في تعامله مع السوريين هو تحويلهم إلى "وشاة" يراقب بعضهم بعضاً، وخلق حواجز خوف وشكّ بينهم، فعمد إلى إقامة تمييز إضافي بين المواطنين (مواطن شريف، وهو المواطن المخبر) وغيره، بحيث يضيف سهاماً أكثر في النسيج الاجتماعي بغاية تفكيكه وتقطيع بقايا الروابط الأهلية مما يسهّل مهمته في السيطرة والإخضاع.
يستدعي حديث بشار الأسد عن إعادة التأهيل ما قاله جورج أورويل في رواية 1984 على لسان المحقق أوبراين للمعتقل ونستون سميث، في مرحلة معينة من التحقيق والتعذيب، وبالحرف: "هنالك ثلاث مراحل لا بدّ أنْ تمرّ بها حتى تتم إعادة تأهيلك وخلقك من جديد وهي: التعلّم ثم الفهم ثم القبول. وقد آن آوان دخولك المرحلة الثانية".
نعم، يعتقد نظام بشار الأسد، الذي لا يقل وحشية في تعامله مع المعارضين والمتظاهرين عن المعاملة الفظيعة التي تنبأ بها أورويل عام 1948، لما ستصل إليه أجهزة تلك الأنظمة الاستبدادية من تميز في قهرها للبشر، أن الوقت قد حان لإعادة تربية وتأهيل الأولاد العاقين الذين خرجوا في لحظة ما عن طوعه، وثاروا عليه وشتموه وأهانوا ذاته المقدسة، مما يضيف أعباء كبيرة لمهمة إعادة التأهيل على عاتق فروع المخابرات، وهي الجهة الخبيرة بإعادة التأهيل.
في سوريا الأسدية، حيث مهمة السلطة تنحصر بإذلال الناس، وتعريضهم لأشد وسائل التعذيب مهانة، من دون غاية سوى نزع الإنسانية منك، وتدميرك، وتمزيق روحك وتذريرها في الفضاء، ليُعاد تشكيلها وتشكيلك في قوالب جديدة كما تشتهي تلك السلطات، لم يعد كافياً، ممن ارتضى مكرهاً البقاء تحت سلطته، التعبيرُ عن عدم معارضته وحتى ولائه، بل لا بدّ من إخضاعه لدورات يخرج من بعدها لا يجرؤ حتى على الحلم بوجود شخص آخر غير "سيادته" في قمة السلطة.
ليس المطلوب منه فقط أن يعرف أن الأسدية قدرٌ له، ولكن على
حيث يسعى كلا الطرفين (روسيا بوتين وأميركا ترامب) بأشكال مختلفة، لفرض نظام استبدادي بشع على السوريين عنوة، ويحمونه كونه الوسيلة الأكثر طواعية لتحقيق مصالحهم، وحفظ أمن "الجارة المدللة"
طريقة أورويل، عليه أن يفهم أن العائلة الأسدية ضرورة لوجوده وأمنه وأمن أطفاله، عليه أن يقتنع بكل أحاسيسه أن "الحرية هي العبودية"، وأن ناتج (2+2) ليس أربعة.
إنه عصر ما بعد الحقيقة، عصر قلب الحقائق، الذي يرعاه "النظام الدولي" الجديد الذي تكرس بعد تدخل روسيا بوتين الوحشي وانتخاب ترامب، وكانت أبشع صوره في سورية، حيث يسعى كلا الطرفين (روسيا بوتين وأميركا ترامب) بأشكال مختلفة، لفرض نظام استبدادي بشع على السوريين عنوة، ويحمونه كونه الوسيلة الأكثر طواعية لتحقيق مصالحهم، وحفظ أمن "الجارة المدللة"، وذلك من خلال تصوير معركة السوريين من أجل حريتهم، على أنها صراع بين نظام "علماني" ومتطرفين إرهابيين.
لربما نجح المحقق أوبراين في الرواية المذكورة في تحطيم شخصية ونستون سميث، وكذلك نجحت الأنظمة الاستبدادية السابقة في العالم، الشيوعية منها والفاشية في إخضاع الناس، ولكن الوقائع والتاريخ يشيران إلى أن فترة الإخضاع، رغم كل دورات "إعادة التأهيل"، لم تدم طويلاً، ويدرك نظام الأسد ومخابراته -الذي تتلمذ على يد مخابرات الأنظمة الفاشية والشيوعية في العالم، وما زال يستفيد من خبراتها- تماماً أنه في النهاية زائل، ولن تكون مراسيمه ودوراته إلا لعنات تنصبّ عليه على مدى التاريخ، فالشعب الذي قدّم أكثر من مليون شخص، وهُجّر نصفه داخل البلاد وخارجها، واعتُقل منه مئات الآلاف، هو من سيحدد في النهاية مصير الطاغية، ومستقبل البلاد، مهما طال الزمن.