رغم الانتقادات المحلية والدولية، أجرى النظام السوري مجددا انتخابات "مجلس الشعب" بعد جملة من التغيرات الاسمية والهيكلية ضمن حزب البعث العربي الاشتراكي، والذي يستعد مجددا عبر مسميات وتحالفات اجتماعية قد تكون مختلفة عن سابقتها للحصول على الأغلبية المطلقة من المقاعد. في ضوء ذلك، وإذا كانت نتائج هذه الانتخابات محسومة سلفا، فلماذا تجري الأنظمة الديكتاتورية انتخابات، وهل هي فقط "مسرحية" شكلية كما يصفها المعارضون أم لها مآرب أخرى.
للإجابة عن هذ السؤال، نحيل القارئ إلى كتاب مهم عنوانه الأصلي "How Dictatorships Work" ترجمته الشبكة العربية للأبحاث والنشر مؤخرًا، وخصص لمعرفة "كيف تعمل الديكتاتوريات: السلطة وترسيخها وانهيارها" من خلال دراسة حالات ومقارنات بين عدة تجارب ديكتاتورية عالمية. وقد اخترنا في هذا المقال تسليط الضوء على أربعة أهداف رئيسة تضعها الديكتاتوريات في قائمة أولوياتها وفق الآتي:
اختبار قوة الديكتاتور وترسيخ مكانته
تعد الانتخابات مؤشراً عالي الكفاءة في اختبار قوة الديكتاتور وهي بذلك تلعب دوراً وظيفياً على المستوى الداخلي في ترسيخ مكانته داخل النظام ذاته أولاً، وضمن القاعدة الاجتماعية للنظام ثانياً. حري بنا الإشارة هنا إلى نقطة مضللة يستخدمها عادة معارضو الأنظمة الديكتاتورية في خطابهم من خلال الادعاء أن الديكتاتوريات تفتقد أي حاضنة شعبية أو قاعدة اجتماعية. صحيح أن الديكتاتوريات عادة ما تستخدم وسائل غير قانونية أو شرعية للوصول إلى الحكم، وصحيح أنها لا تسعى للحصول على تأييد شعبي مرجح، لكنها لا تستطيع الاستمرار بالحكم بناء على آليات القهر والقمع وحدها. لذلك تنشئ الديكتاتوريات عادة أحزاباً ومؤسسات سياسية واجتماعية هدفها مد شبكات الخدمات لإيجاد علاقة ريعية تجعل الأنظمة القائمة بمنزلة الراعي أو الكفيل، وتصنف المواطنين على أنهم عملاء أو وكلاء.
انطلاقاً من هذا الفهم الخاطئ، يصاب المعارضون بالإحباط عادة عندما يرون مشاهد شعبية وجماهيرية تؤيد الديكتاتوريات حتى ضمن مناطق ومدن تحسب في الوجدان الشعبي والتصنيف السياسي أنها مناوئة أو غير مناصرة، وهو ما يدفعهم في كثير من الأحيان نحو الاصطدام مع الجمهور بعمومه إما عبر لومه وتحميله مسؤولية ما جرى أو وضع حراكه في إطار مبرمج ومعد مسبقاً. لا شك أن الإكراه يوضح جزءاً من صورة الحشد والتصويت الانتخابي لكنه لا يوضحها كلها.
"الانتخابات تعد مؤشراً عالي الكفاءة في اختبار قوة الديكتاتور وترسيخ مكانته داخل النظام وضمن القاعدة الاجتماعية للنظام."
ربما يتجاهل المعارضون عادة أن الديكتاتوريات بما فيها تلك التي تقدس الفرد لا تعمل إلا في إطار مؤسساتي محكم، وهذه المؤسسات تضمن البعد الشعبي للديكتاتوريات حيث يصبح تبادل المنافع بين النخبة السياسية وشريحة من المواطنين أمراً روتينياً. وهذا ما يجعل هؤلاء يظهرون الدعم للديكتاتور ليس بالضرورة خوفاً منه وإنما حماية لمصالحهم. فعلى سبيل المثال، يشكل القطاع العام في سوريا مورد دخل ثابت لأكثر من مليون مواطن ممن حرص النظام على استمرار رواتبهم، حتى في المناطق الخارجة عن سيطرته، وأدخلهم في دورة الفساد والمحسوبية لضمان عدم تأثرهم بالتغيرات الاقتصادية والأوضاع الاقتصادية.
لقد بدا واضحاً في المقاطع القادمة من سوريا أن هؤلاء هم ركيزة النظام الرئيسة في الحشد الشعبي العابر للحزبية والطوائف. هذا بالطبع إذا أهملنا التحالفات المجتمعية التي تبرز تجلياتها باستمرار من خلال عدة صور كالتحالف مع برجوازيات المدن الطفيلية، والتحالفات الطائفية والعشائرية، وتحالفات النكاية. على هذا الأساس، سيكون من غير المجدي على المستوى الخطابي تبخيس القاعدة الاجتماعية للنظام، لكن من دون المبالغة في حجمها بالوقت ذاته، والتركيز على طرح البديل الديمقراطي بوصفه لب المعركة مع النظام.
المراقبة والتنفيذ
بالإضافة إلى ما سبق، تبرز الانتخابات أيضاً بوصفها مؤشراً يمكن للديكتاتور من خلاله أن يبعث رسائل إحباط ليس فقط للمعارضة، وإنما لخصومه داخل النظام على اعتبار أن عملية التعبئة والحشد الانتخابي هي عملية مراقبة للمسؤولين أيضاً تقيس مدى ولائهم وانتمائهم إلى مشروع الديكتاتور ذاته أكثر من النظام. وفي نقطة الولاء هذه لا بد من التأكيد على نقطة جوهرية مفادها أن الديكتاتور لا يهتم بأن يكون الولاء حقيقياً نابعاً من إيمان وانتماء، بل يفضل في أحيان كثيرة التظاهر بالولاء على الولاء ذاته؛ لأن ذلك يحقق شرطَي الهيبة والخوف عملاً بالقاعدة الميكافيلية المعروفة بأن تكون مرهوباً أفضل من أن تكون مرغوباً أو محبوباً. إن مؤشر الخوف مهم جداً في ميكانزمات عمل الديكتاتوريات؛ لأنه يمنع الانشقاقات والتصدعات داخل بنية النظام، أو يحصرها بالجانب الفردي. انطلاقاً من ذلك، تمثل الانتخابات فرصة ذهبية للديكتاتور لجمع المعلومات عن مسؤولية المكلفين أصلاً بجمع المعلومات عن المواطنين، وكذلك لتقييم عملهم وأدائهم والترهل الذي أصابه. لذلك غالباً ما تفتتح الديكتاتوريات حملاتها الانتخابية بعناوين عريضة مثل "مكافحة الفساد" التي تطول في الغالب مسؤولين محليين لم يقوموا بمهام الحشد المطلوبة انتخابياً.
"تقدم الانتخابات فرصة للديكتاتور لجمع المعلومات عن ولاء المسؤولين ومدى كفاءتهم، مما يساعد في مراقبة أداء المسؤولين ومعاقبة المقصرين."
وبكلمات أكثر تفصيلاً، إن ضعف الحشد الانتخابي يعني للديكتاتور أمرين لا ثالث لهما، أولهما أن المسؤولين المحليين لم يقوموا بواجبهم لإقناع أو إجبار المواطنين على التصويت، وثانيهما أن المواطنين يعادون النظام والمسؤولين المحليين إلى درجة تدفعهم للمخاطرة بعدم التصويت والتعرض لعقوبات النظام، وفي كلتا الحالتين ستتم التضحية بالمسؤول المحلي. إن المتابع الحثيث لديناميات الحالة السورية يرصد بشكل واضح استمرارية التضحية بالمسؤولين المحليين أو غير المهمين واستبدالهم وتحميلهم المسؤولية سواء ضمن مجلس الوزراء أو الإدارات المحلية أو حتى الدائرة الضيقة مثل ما جرى مع لونا الشبل وآخريات وآخرين.
إدماج الطامحين الجدد
بمقدار ما تمثل الانتخابات فرصة لمراقبة المسؤولين ومعاقبة المقصرين منهم في عملية التعبئة والحشد، تمثل فرصة للتعرف على الطامحين الجدد داخل النظام وخارجه والذين عادة ما ينتهزون فرصة الانتخابات لإثبات كفاءتهم ودرجة ولائهم. وعادة ما يصنف هؤلاء ضمن قسمين:
- طامحون من داخل النظام غير قانعين بمكانتهم ومناصبهم ويبحثون عن ترقيات وأخذ مكانة أعلى من خلال القيام بأعمال تميزهم عن أقرانهم.
- وطامحون من خارج النظام لكن مصالحهم الاقتصادية أو مكانتهم الاجتماعية لا يمكن ضمانها ونموها إلا من خلال إظهار التأييد للنظام.
فيما يتعلق بالفئة الأولى، سوف ينظر النظام السوري بالتأكيد بعين الإعجاب إلى القائمين على مسيرة جامعة البعث في حمص، أو الحفلات الموسيقية والمركز الانتخابي في دوما. سوف يقيم اعتباراً كبيراً لمن نظم مسيرة المشايخ الدمشقيين وهم يطالبون الله جهاراً نهاراً بحفظ الرئيس والمد في عمره. وبالتأكيد سوف يجد لهم المكان المناسب لهذا التأييد الذي يتجاوز الصمت والجرائم المرتكبة نحو تصوير الديكتاتور كمخلص أو كنور مضيء، شأنه في ذلك شأن الصالحين والأنبياء. وما هو حتمي أيضاً أنه سينظر بعين الإعجاب لرجال أعمال صاعدين في دمشق وحلب سخّروا الإمكانيات والموارد لتوزيع المنافع على المواطنين لحثهم على المشاركة بالتصويت أو الاحتفال بفوزه. أضف إلى ذلك، ستكون الانتخابات الرئاسية مناسبة للتسليم لقادة الميليشيات بنفوذهم المناطقي مقابل ضمان ولائهم وخدماتهم المقدمة للنظام من خلال إجبار الناس على التظاهر بحب الرئيس كما حصل في بابا عمرو في حمص أو حلب.
السلطويات المدعومة انتخابياً
من نافلة القول إنه بعد انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1990 بكل حمولاته الرمزية على مستوى شكل الأنظمة السياسية وآلية عملها، انتقلت غالبية الأنظمة الديكتاتورية من أسلوب "التصديق الانتخابي" القائم على الاستفتاء عن مرشح أو قائمة واحدة إلى إجراء "انتخابات تعددية" على المستوى الشكلي، سواء أكان ذلك في الاستحقاقات التشريعية أم الرئاسية. ومع أن التغيرات السابقة حصلت آنذاك ضمن موجة عالمية عارمة، فإنها استغرقت نحو ثلاثة عقود، وثورة شعبية بمئات آلاف الضحايا وملايين النازحين حتى وصلت شكلياً إلى سوريا.
أيًا يكن، وبالرغم من وجود حالات معدودة أدى فيها الانفتاح الانتخابي "التعددي" إلى الانتقال نحو الديمقراطية، فإن غالبية دراسات التحول الديمقراطي تشير إلى أن النسبة الأكبر من الديكتاتوريات استطاعت الحفاظ على السلطة من خلال إنشاء مؤسسات ديمقراطية مزيفة، وأن هامش الحريات اقتصر على الجوانب المجتمعية والمستويات السياسية الدنيا من دون المساس ببنية وتركيبة السلطة. بالمقابل، جنت الأنظمة فوائد جمة خارجياً لجهة التخلص من الوسم "الديكتاتوريات" الذي يعوق حركتها دولياً مقابل ظهور مصطلحات وتصنيفات جديدة لها "شبه تنافسية، أو سلطوية انتخابية، أو شبه سلطوية" قابلة للتطويع والتطبيع معها خاصة في الجانب الاقتصادي. وبخلاف الديكتاتوريات المغلقة، خصصت بنية الأنظمة "شبة السلطوية" لتفعيل آليات احتواء مجتمعية وسياسية تمنع حصول ثورات جذرية أو حروب أهلية، كما جرى مع عدة أنظمة عربية، وهو أحد الأهداف التي يسعى إليها نظام الأسد بنصيحة روسية، بعد إعمال كل وسائل القمع المادي السابقة.
"معظم الديكتاتوريات تحافظ على السلطة من خلال إنشاء مؤسسات ديمقراطية مزيفة تمنع حصول ثورات جذرية أو حروب أهلية."
بكلمات أخرى، لدى روسيا قناعة راسخة، مؤداها أن النظام السوري لا يستطيع الاستمرار بالآليات السابقة نفسها التي حكمت عمله خلال العقود الخمسة الماضية، وأنه آن الأوان لتغيير بنيوي محسوب يؤدي إلى تعميم التجربة الروسية في سوريا، من خلال إنشاء نظام "شبه سلطوي"، يوفر هامشاً من الحريات والتعددية الحزبية الشكلية، مع وجود انتخابات تعددية تتسع فيها درجة التنافسية باستمرار، لكن دون أن تصل إلى حد تكون فيه الانتخابات مدخلاً لتغيير الأنظمة. وفي اعتقادنا سوف يشكل ذلك تحدياً أكبرَ أمام قوى الثورة والمعارضة السورية مستقبلاً، في ظل عجز الأخيرة عن تقديم بديل ديمقراطي متكامل.
وعليه، فإن التعامل مع الانتخابات الحالية بوصفها مهزلة أو "مسرحية" لا يكفي ولا يقدم جديداً على مستوى الخطاب والممارسة، فالانتخابات وفقاً لتصنيفات الأنظمة ربما تقدم جديداً لمجموعة من القوى الإقليمية والدولية الراغبة فقط بإغلاق الصراع السوري بأي وسيلة ممكنة من دون حله. إن مواجهة ذلك يتطلب استراتيجية شاملة تقوم على مجموعات ضغط رئيسية وفرعية لمسعى النظام وحلفائه لتقديم الانتخابات الحالية بوصفها مدخلاً للتغيير أو استجابة للقرارات الدولية. صحيح أن المواقف الدولية واضحة جداً في هذه المسألة حتى الآن لجهة الاعتراف بالانتخابات، لكن تغيّرها ما يزال ممكناً وهنا مكمن الخطر.