قبل انطلاق الثورة السورية، أقام نظام الأسد مهرجاناً في محافظة إدلب، سماه المدن المنسية! وهذه ليست بطرفة.
ليست إدلب مدينة على هامش التاريخ بل إنها من أقدم المدن وأغناها بالآثار، إذ تحوي ثلث آثار سوريا، بعدد من المواقع الأثرية بلغ 760 موقعاً أثرياً مسجَّلاً، تعود إلى حِقَب زمنية مختلفة، أهمها كنيسة قلب لوزة وآثار جبل سمعان، وتشمل 40 قرية أثرية مسجلة على لائحة التراث العالمي، كما تضم محافظة إدلب أكثر من 200 تل أثري، تشكل 50% من التلال الأثرية السورية.
محافظة إدلب تضم أيضاً العدد الأكبر من المدن "المنسية" أو "الميتة" التي سُمّيت بهذا الاسم لأن سكانها هجروها منذ أكثر من ألف عام، ويعود تاريخها إلى ما بين القرنين الأول والسابع للميلاد من الحقبة البيزنطية، وقد وضعتها منظمة اليونيسكو على قائمة التراث العالمي.
لن أدخل في التفاصيل والآثار التاريخية في إدلب فهي تحتاج إلى متخصصين في الآثار للحديث عنها، وليس هذا جوهر حديثي هنا، لكن بعد انقلاب حافظ الأسد واستيلائه على السلطة تحولت كل المحافظة فعلًا إلى إدلب المنسية حيث كادت تكون ممسوحة من الخارطة، وهذا المسح تجلى في إهمال إدلب على كل الأصعدة صحياً واجتماعياً واقتصادياً، فقد كانت إدلب في عهد نظام الأسد تفتقر للحدود الدنيا من العناية والتنمية والاهتمام وكأنها ليست جزءاً من سورية. ونهج المسح ليس غريباً على هذا النظام، فوزير خارجيته المعلم مسح أوروبا كلها من الخارطة بداية الثورة، وهذه ليست طُرفة أيضا !
وبعد انطلاق الثورة السورية والتحاق أهل إدلب بركب الثورة والمظاهرات السلمية ومن ثم الحراك العسكري، ومشاركة أبنائها مع الجيش الحر بشهادة الكثيرين في تحرير معظم المناطق السورية، ظن أهل إدلب أن الوضع سيكون مختلفاً، وصحيح أن إدلب لم تعد منسية وتتصدر عناوين الأخبار حتى أصبح رؤساء وقادة العالم يتحدثون عن إدلب، خاصة بعد عمليات التهجير بالباصات الخضراء من كل المناطق التي حملت آلاف السوريين المهجّرين قسراً من مناطقهم إلى إدلب وأريافها، حيث استقبل أهل إدلب المهجّرين وأصبحت المحافظة "سورية مصغرة" إلا أن هذا لم يشفع لأهلها بعد سيطرة سلطة الأمر الواقع عليها، لتعود إدلب متروكة تحت قبضة الجهات المسيطرة عليها كعقاب لأهلها على ذنب لم يرتكبوه، فمعظم الدول أوقفت المساعدات عن ساكنيها بسبب سلطة الأمر الواقع المسيطرة عليها، بل إن روسيا والنظام يقومان بهجمات وقصف على المحافظة بحجة وجود جهات متطرفة فيها علماً أن هذه الهجمات العسكرية لا تستهدف إلا المدنيين والمرافق الحيوية والخدمية والأسواق والمشافي فقط!
عقد كامل مر على انطلاق ثورتنا، إلا أنها ليست مجهولة المستقبل، فهاهم السوريون من أهالي إدلب والمهجّرون قسراً من كل المناطق يملؤون الشوارع والساحات بمظاهرات عمت كل الأراضي المحررة مطالبين بإسقاط المجرم ومحاسبته، مجددين العهد سائرين على خطا شهداء الحرية والكرامة، منادين بسورية الديمقراطية التعددية يسودها العدل والقانون؛ ليقولوا للعالم إنَّ إدلب هي ذاكرة كلّ سوري حر.
نحن السوريين مستمرون في العمل وكلنا ثقة ويقين أن هذه الثورة ستحقق أهدافها وسنبني سورية الدولة القادرة على أن تفتح صفحة جديدة وتؤسس لحياة كريمة لنا وللأجيال القادمة.
والآن بعد كل سنوات المعاناة وما مر على أهالي إدلب، هناك أسئلة ملحة لا إجابة عليها، إلى متى سيستمر المجتمع الدولي بمعاقبة أهالي إدلب على ذنوب لم يرتكبوها؟ وإلى متى سيبقى أهالي إدلب يعانون من سلطة الأمر الواقع ويحرمون من أدنى مقومات الحياة في حين أن شرق الفرات يعامل معاملة مختلفة بالرغم من وجود سلطات أمر واقع تقوم بانتهاكات لحقوق الإنسان وتغيير ديموغرافي وتهجير السكان الأصليين وتجنيد الأطفال على مسمع ومرأى من المجتمع الدولي دون أن يحرك ساكناً، ولم ينقطع الدعم عن تلك المناطق، علما أننا لا نريد أن ينقطع الدعم عن المدنيين في أي بقعة من سورية، ولكن كل ما يناشده أهل إدلب هو أن يعاملوا بالمثل وأن يسمع صوتهم وألا يتم تصنيفهم أسوة بسلطة الفئة المسيطرة على المنطقة، فهل يصنف المدنيون في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام وسيطرة تنظيم PYD تبعاً لمن يسيطر عليهم؟! أما آن لهذا العالم أن يسمع، وأن يزيل الغشاوة عن عينيه!
إدلب اليوم باتت في مركز سورية الحرة ديمغرافياً وسياسياً وإعلامياً ولن يقبل التاريخ أي ذرائع خاوية في استهدافها أو إهمالها أو التغاضي عن ملايين السوريين الأحرار الذين اختاروها حضناً لهم ريثما يتموا ثورتهم ويعودوا إلى ديارهم كراماً منصورين.
وستبقى إدلب الغائب الحاضر في تاريخ شعب يكتب فجر مستقبل سورية التي نحلم وحلم بها شهداؤنا من قبل.